تجمع الدراسات على أن النرجسية في تزايد كبير، إذ وجدت رابطًا قويًّا بين زيادة درجات النرجسية وسلوك الترويج الذاتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي
بعد مرور ثلاثة آلاف سنة ، لا تزال اسطورة نرجس أو نرسيس الإغريقية، والتي كانت مصدر إلهام لكثير من الكتاب والرسامين، من أكثر الروايات المتداولة شفويًا. فمأساة نرسيس، الشاب الوسيم في الميثولوجيا اليونانية، لم تكمن في حبّه لنفسه فحسب، بل في أنّه لم يحب سواها، مما جعله يحتقر الحورية الساحرة إيكو، فعوقب بالوقوع في حب انعكاس صورته الخاصة في الماء ليهلك غرقًا.
كيف بالإمكان التعرْف على النرجسيين في حياتنا اليومية؟
يقول المعالج النفسي الهولندي فرانك شالكويك: “لنفترض أنك تتحدث مع نرجسي في إحدى السهرات، فبمجرد أن يعرف مهنتك، حتى يبدأ بشرح كيف يعمل عالمك، حتى وإن لم تكن لديه أدنى فكرة عنه، فهو في قرارة نفسه مقتنع بأنه أكثر تفوّقًا عليك أنت الشخص الصغير ال جاهل”.
ووفقًا “للدليل السريري” في علم النفس، فإنّ “اضطراب الشخصية النرجسية” تنطبق على الشخص الذي يسعى بشتى الطرق إلى إظهار عظمته وجذب إعجاب الآخرين، ومن صفاته:
ـ السعي إلى إيهام من حوله بالنجاح والقوة والجمال والتفاني.
اقتناعه بأنه شخص مميّز، ولا يمكن أن يُعامل بالمساواة إلا مع أشخاص استثنائيين مثله.
رغبته الدائمة بالحصول على الإعجاب.
إقامة علاقات تصبّ في مصلح ته الشخصية.
عدم التعاطف مع الآخرين.
غيرته من الجميع والتوهّم بأن الجميع يغار منه.
ادعاءه الفهم والذكاء.
أنواع النرجسية
ويقسّم شالكويك النرجسية إلى نوعين: “نرجسية العظمة” و”النرجسية الهشّة”، ويرى أنّ الأولى غير قابلة للتحكّم إذ يقتنع صاحبها بتفوّقه على كل من حوله وذلك بسبب افتقاره إلى صورة ثابتة عن ذاته، فمن دون هذا “الدعم الاصطناعي” سيشعر بأنه نكرة، أمّا “النرجسية الهشّة”، فتسيطر على حاملها مشاعر الخجل والحساسية المفرطة تجاه النقد والرفض، وغالبًا ما يتقمّص النرجسي “الهش” دور “الأم تريزا”، من خلال إظهار الاهتمام والرغبة في المساعدة، لكن ما يهمه في الواقع ليس احتياجات محاوره إنما تلقي الثناء والامتنان له والإعجاب به.
وقد جرى لفترة طويلة، تصنيف النرجسيين المتسّمين بالعظمة والنرجسيين الهشين في مجموعتين منفصلتين، لكن نظرية جديدة وضعتهم في خانة واحدة ضمن درجات متفاوتة، لنأخذ شخصًا كان محط أنظار الجميع في حفلة ما مثلًا، فإذ به يستيقظ في اليوم التالي قلقًا بشأن الانطباع الذي تركه، كما يمكن لهذا الشخص ذاته أن يظهر عظيمًا في موقف ما وشديد الحساسية في موقف آخر قد يكون مشابهًا.
جذور النرجسية
قد تجد النرجسية جذورها في مرحلة الطفولة عندما لا يستجيب الوالدان لاحتياجات الطفل من الاهتمام والتفهّم، فيشعر بالاضطراب وتتأثر ردود أفعاله ليقول مثلًا: “لماذا لا يشعرون بي ولا يهتمون لراحتي؟”، إلا أنه بعد أن يواجه هذا “الخذلان” لمرات عدة، يقرر الطفل الاستغناء عن الآخرين، فيطوّر نموذج ارتباط يُعرف بـ “غير الآمن” و”المتجنّب”، وفقًا لفرانك شالكويك الذي يقول: “تكمن المأساة في أن النرجسي يحتاج بشدة إلى الآخرين، فهذا النقص بالحب والعطف من قبل والديه يجعل منه شخصًا يفتّش عن التقدير والإعجاب في عيون الجميع، فيضعه ذلك في عزلة عن أقرانه”.
وقد وصف عالم النفس والمعالج السلوكي مارتن أبيلو، من جامعة غرونينغ في هولندا هذه الديناميكية بالدائرة المفرغة فيقول: “حتى لا يشعر النرجسي بعدم الاستقرار ينفخ نفسه بالكبرياء، مما يعطيه انطباعًا أوليًا بالثقة بالنفس، ولكن عند أول لا مبالاة من قبل محاوره مثلًا، تراه ينتفض إذ يرى في هذا السلوك اعتداء صارخًا عليه فيلجأ لحماية نفسه بالتصرّف باحتقار ورفض كل من يعامله بهذه الطريقة، ليجد نفسه في نهاية المطاف وحيدًا مع شكوكه المتزايدة، ويزيد عنده الشعور بعدم الاستقرار، وهذا بالتحديد ما يفسّر سلوك النرجسي المتقلّب إذ تارة تراه مستاءً من نفسه خجولًا من تصرّفاته وطورًا يكون فخورًا معتزًا بنفسه.
إلا أنّ هناك نظرية أخرى تعرف بـ “نظرية التعلّم الاجتماعي”، قدّمها عالم النفس الأمريكي ثيودور ميلون من جامعة كونيكتيكت، تقول إن الأهل الذين يمدحون أولادهم بشكل مبالغ فيه ويعتبرونهم أكثر ذكاءً مما هم في الواقع، فيختارون لهم أسماء فريدة وحتى خيالية لتمييزهم عن الآخرين منذ ولادتهم، يجعلون منهم أشخاصًا نرجسيين في المستقبل.
الفرق بين الشخص “النرجسي” والشخص الذي يمتلك تقديرًا عاليًا لذاته؟
قد يصعب على كثيرين التمييز بين النرجسية والتقدير العالي للذات، إلا أن ثمّة فرقًا شاسعًا وجوهريًا، بينهما، ففي حين ترمز الأولى إلى الغرور، فإن تقدير الذات يشير إلى احترام المرء لذاته، وعلى الرغم من أن عوارضه على غرار النرجسية تبدأ بالظهور في سن السابعة تقريبًا، مع بدء الطفل بتكوين حكم جزئي عن نفسه من خلال المقارنة بأقرانه وإبداء اهتمام في ما يعتقده الغير عنه، إلا أنه يختلف عنها، فالنرجسي يقيّم الأفراد بناءً على مقياس تدريجي يضع نفسه على قمّته، بينما الشخص الذي يتمتع بتقدير عالٍ لذاته يعتبر نفسه ثمينًا، ولكن ليس أكثر من الآخرين، وليس بالمقارنة معهم. إلا أنّ لهذين الجانبين بعدين مستقلين أحدهما عن الآخر، فكما أنّ هناك نرجسيين يتمتعون بتقدير عالٍ لذواتهم هناك بالمقابل من لديه تقدير منخفض للذات.
كيف نحمي أطفالنا من النرجسية؟
للحد من خطر تطوير ميول النرجسية عند الطفل، يقول الباحث في جامعة أمستردام إيدي بروملمان يجب عدم المبالغة في الثناء أو في الإهمال، إذ لاحظ أن الأهل الذين يثنون بطريقة مبالغ بها على أبنائهم يطوّرون لديهم على المدى القصير تقديرًا أقل للذات، فالثناء في غير مكانه كما الإهمال قد يكون لهما تأثير مزعزع على نفسية الطفل، أما بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بتقدير جيد للذات، فإن المبالغة في الثناء قد ترفع من معدلات النرجسية. ولحماية الطفل من النرجسية ينصح بروملمان باعتماد الطرق الآتية مع الطفل:
٠ احكم على طفلك بموضوعية.
٠امتدح اجتهاده وليس نتيجة عمله.
٠ تجنّب المديح بشكل مفرط.
٠ لا تجعله في سباق مع الآخرين.
٠ لا تطالب بمعاملة خاصة أو حقوق مميزة له.
أما لتعزيز تقديره لذاته يقول بروملمان:
٠أظهر لطفلك أنه ذو قيمة.
٠ قم بأنشطة واستمتع بوقتك معه.
٠ خاطبه بمودة.
٠ ابدِ اهتمامًا بما يقوم به.
تشير كل الدراسات التي أُجريت في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن سمات النرجسية في تزايد، إذ وجدت رابطًا بين زيادة درجات النرجسية وسلوك الترويج الذاتي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كيف لا ونحن نعيش في مجتمع يتسّم بالتنافسية بحيث لم نعد نقبل بأن نكون عاديين بل بتنا نسعى بأن نصبح متميّزين ومتفوّقين على الآخرين.