في خضم الحرب الإسرائيلية على “حزب الله”، يبرز اسم رجل الدين الشيعي محمد علي الحسيني من خلال إطلالاته شبه اليومية على قناة “العربية” السعودية، وما يثيره من جدل واسع حول “توقعات” صدق الكثير منها، على سبيل المثال لا الحصر، اغتيال قادة من حزب الله وحماس وعلى رأسهم زعيما التنظيمين: حسن نصرالله ويحي السنوار.
واللافت في الحسيني الذي يقول إنه كان من مؤسسي حزب الله وأحد المقرّبين جدًا من نصرالله قبل أن ينشق لاحقًا عن الحزب، موهبته الكلامية الآسرة، وطريقة سرده لرواياته واللعب على الكلام، فبنشوة ظاهرة على وجهه يدخل في مونولوج طويل، تقطعه بين الفَينة والأخرى “رشقات” من تمجيد الذات والإشادة بالنفس والتفاخر والتباهي، ثم يستأنف سردياته بكلمة “أنا”، وبتذكير المشاهد بأنّ ما يقوله ليس تنبؤات ولا توقعات إنما معلومات حصل عليها بفضل موهبته في استقصاء الأخبار، وبسبب حبّه للنقاش ومشاركته الأفكار مع الآخرين، مكرّرًا جملته الشهيرة: “أنا أرى وأسمع”، متجاهلًا مداخلات محاورته أو تعقيباتها، (الإعلامية ريم بو قمرة) التي نادرًا ما يجيب عن أسئلتها الاستفسارية.
وفي كلام الحسيني الكثير من التكرار والقليل من الإضافات، وكأن جلّ ما يريده هو إشباع حاجته للكلام وجعل الآخرين ينصتون إليه. ينقل ما يتناهى إلى مسامعه من أمور لا تخلو من الغرابة، يشير بكل ثقة إلى ما ستكون عليه ردو د فعل المشاهدين المحتملة تجاه حلقاته، وعلى الرغم من إدراكه بأنه يفرط في الكلام، إلا أنه يرى ما يقوم به “مُرْضِيًا”، فيدافع عن ذلك معتبرًا أن “أيّ شخص بموقعه كان ليتصرّف مثله تمامًا”.
من الحقائق الثابتة، إننا نحن كبشر، نستمتع بـ”الثرثرة” بشكل كبير، لدرجة أن هؤلاء “المفرطين بالكلام” لم يلفتوا اهتمام علماء النفس الذين انشغلوا بالظاهرة المعاكسة، أي بالأشخاص قليلي الكلام، الانطوائيين، الصامتين والخجولين الذين يقيّدون أحاديثهم ويتجنّبون المواقف العامة والمواجهات، فرفوف المكتبات تغص بالكتب التي تتناول فنون التعبير والبلاغة والإلقاء، والقاعات تعجّ بالندوات والدورات التدريبية حول البلاغة والطلاقة والفصاحة، وكأن قدرنا هو تمجيد أولئك الذين يستغلون الكلام لدوافعهم الشخصية.
ممّا لا شك فيه أن مادة الشيخ الحسيني جاذبة للمشاهد، ولكنها أيضًا تقدّم خدمة لشخصه الذي عرف كيف يحيطها بهالة خاصة، وهو الذي يقدّم نفسه كديّان، فيبعث برسائل مبطّنة إلى هذا، ومباشرة إلى ذاك، وهو الذي يقرّر متى يجوز التشفّ ي ومتى يُحرّم، مع استخدامه لمرادفات تشبه إلى حدّ كبير مرادفات أولئك الذي ينتقدهم، كعميل وعدو ومخلص و…
تمّت دراسة ما يشبه حالة الشيخ الحسيني من قبل الباحثين جيمس ماكروسكي وفرجينيا ريتشموند من جامعة ويست فيرجينيا في الولايات المتحدة الأميركية، فتبيّن أن “الثرثارين” يتميزون بأنهم يدركون إفراطهم في الكلام، لكنهم لا يستطيعون التوقف، حتى وإن تسبب لهم هذا السلوك بمشاكل جادة وحقيقية، مثل الرفض أو العنف… فبراعتهم بالحديث والنقاش ومشاركة الأفكار، وتميّزهم بثبات أسلوبهم مهما تغيّرت الظروف، يجعل من السهل التعرّف عليهم. ويقول ماكروسكي وريتشموند: “قد يقومون بذلك لمَحْوِ صورة غير مقبولة عنهم أو للانتقام”، وقد يكون هذا بالتحديد ما يحصل مع الشيخ الحسيني، هو الذي عانى ما عاناه من “ظلم”، كما يقول، من قبل أبناء جلدته حيث حكم عليه بالسجن بتهمة العمالة ليترك بعدها لبنان نهائيًا، هذا طبعًا من دون أن نُهمل الدوافع السياسية المحليّة والإقليمية لإطلالاته التي لم يتم تخصيصها بمساحات زمنية “لوجه الله”!