منذ الإعلان عن توقيف أشخاص قيل إنهم متورطون بعملية خطف منسق القوات اللبنانية في جبيل باسكال سليمان، تُنقل روايات عن ألسنتهم. ساعة يقولون إن رأس “العصابة” يفاوض على فدية، وتارة يقولون إنّ المخطوف بصحة وعافية وعلى قيد الحياة. وبعدها ظهر أنّ كل ما نقل عنهم كاذب جملة وتفصيلًا، إذ تبيّن أنه قد تمّ اغتياله، منذ الدقائق الأولى لاختطافه.
الآن، يحوّلون الكلام المسرّب عن الموقوفين الى “حقائق ثابتة”. وفي ادعاءات هؤلاء ورد أنّهم لا يعرفون المجني عليه، وأنّهم وقعوا عليه بالصدفة لأنهم عجزوا عن سرقة غيره ونجحوا معه!
إنّ من يحاولون تحويل أقوال هؤلاء الموقوفين الى “حقائق ثابتة” يتناسون أنّ كثيرًا من اللبنانيين يدركون أنّه في الجرائم السياسية الحساسة يتم إدراج التضليل في الخطة الشاملة، كما يتم استعمال واجهات متهمة لإخفاء المتهمين الحقيقيين، كما يتم تسليم مطلوبين مزوّرين لحماية المطلوبين الفعليّين.
وفي قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري أوجد المخططون سيناريو أحمد أبو عدس. كان أبو عدس أفضل نموذج، في تلك المرحلة التي حفلت بترهيب اللبنانيّين، دفاعًا عن استمرار الإحتلال السوري للبنان بصفته “الضمانة الدفاعية” عن لبنان في وجه “التطرف السني” والوجود الفلسطيني في البلاد.
وكان أحمد أبو عدس النموذج الأفضل لأنّه في آن: متطرف سني، ومن أصول فلسطينية.
وهذا يعني أنّ القتلة يضربون عصافير عدة في حجر واحد: يتخلّصون من رفيق الحريري، يُبعدون المسؤولية عن أنفسهم، ويبيعون اللبنانيين والغرب مكافحة التطرف وتوطين الفلسطينيّين.
وفي ملف اغتيال النقيب الطيار سامر حنّا في طيّارته فوق تلة سجد، في العام 2008، سلم “حزب الله” شخصًا واحدًا هو مصطفى المقدم، بصفته من تسبب، بمفرده وبقرار شخصي منه، بإسقاط المروحية. وقد بدا واضحًا أنّ المقدم لا يعرف ماذا حصل، فالإفادات التي قدمها كانت متضاربة الى حد كبير. بعد أشهر قليلة أخلي سبيله، وبقي غائبًا عن جلسات المحاكمة ولم يعد أحد يذكر اسمه، إلى أن أعلن “حزب الله” في العام 2014 أنّه قتل “أثناء قيامه بواجبه الجهادي في سوريا”.
وفي ملف محاولة اغتيال الوزير السابق بطرس حرب حاول “حزب الله” تسليم شخص إسمه محمود الحايك، فاكتشف مكتب حرب أنّ من يريد “حزب الله” تسليمه لا صلة له بالجريمة وهو بدل عن المتهم الحقيقي. وقد أغلق ملفه كليًّا، بعد إعلان “حزب الله” مقتل هذا الشخص “أثناء قيامه بواجبه الجهادي في سوريا”.
والأمثلة في هذا المجال أكثر من الهم على القلب.
وإذا كان كثير من اللبنانيين يدركون هذه الحقائق التي تحفل بها ملفات الجرائم الأساسية كما الفرعية، فإنّ المحققين هم الأكثر دراية بذلك، ولكن كل هذا لم يتسبب برف جفن لهم، وهم يعلنون أنّهم اكتشفوا الحقيقة الكاملة في ملف اغتيال باسكال سليمان، وراحوا، من دون أيّ وازع، يسرّبون ما قالوه، أو طلب منهم أن يقولوه، إلى إعلاميين مهمتهم المحورية هي الدفاع عن “حزب الله” وتعميق الحفرة لباسكال سليمان.
قدموا هذا النوع من الأقوال كما لو كانت حقائق راسخة، من دون أن يهتموا لا بتوقيت عملتي الخطف والقتل اللتين أعقبتا، بثمان وأربعين ساعة، مشكلًا كبيرًا بين مجموعتين مسيحية وشيعية في جبيل تدخل الجيش لفضه، ولا بقدرة عصابة على التنقل بحرية بين جبيل وسوريا على متن سيارتين معروفة سرقتهما مسبقًا، ولا بسبب نقل الجثة الى داخل سوريا، ولا بسبب تخلي عصابة سرقة سيارات عن سيارة أجهدت نفسها في سرقتها، ولا بالجهة التي توفر لها الحماية في قرية يسيطر عليها “حزب الله” بالتعاون مع واحدة من عشائر الحدود!
نحن في تشكيكنا الكامل بالرواية الرسمية ومن يقف وراءها، لا ندافع فقط عن دماء باسكال سليمان ولا عن حقوق عائلته، بل ندافع، قبل أي شيء آخر، عن جميع اللبنانيّين الذين إن تلمّسوا أنّ أجهزتهم الأمنية تتولّى حماية القاتل - وهذا ما هم مقتنعون به- فهم أمام خيارين لا ثالث لهما: الشلل الناجم عن خوف كبير أو التمرد المنتج لاضطرابات أهلية لا تحمد عقباها.
ولا بدّ من تكرار ثابتة دامغة: لا يوئد الفتن طمر الرؤوس في التراب، بل نبش الحقائق من تحت الركام!