"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

وزير ماليّة حكومة حسّان دياب يعدّد "الأسباب الموجبة" لإعلان "إفلاس الدولة اللبنانيّة" قبل ثلاث سنوات

نيوزاليست
الخميس، 9 مارس 2023

قدّم غازي وزني، وزير المال في حكومة حسّان دياب، في مقالة بمناسبة “الذكرى السنويّة”، ما اعتبره “الأسباب الموجبة” التي دفعت في حينه الى تعليق دفع سندات اليوروبوندز، ممّا أدخل الدولة عمليًّا في حالة إعلان إفلاسها. وزني بدا “دبلوماسيًّا” في ما كشف عنه، إذ لم يتطرّق إلى أسماء الجهات السياسيّة التي دفعت الى اتخاذ هذا القرار الإشكالي ولا الى تلك “الصديقة وغير الصديقة” التي عرقلت المفاوضات وحالت دون وصول القرار الى “أهداف إيجابيّة”، ولكن من الواضح أنّ المصيبة اللبنانية هي من السياسيين وإلى الشعب تعود

قبل ثلاث سنوات، إتخذت حكومة الرئيس حسان دياب قراراً صعباً وجريئاً ومصيرياً، بتعليق دفع سندات “اليوروبوندز”، مستندة الى توافق وطني حصلت عليه في اجتماع عُقد في بعبدا في 7 آذار 2020 برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيسي مجلس النواب ومجلس الوزراء ونائبة رئيس الحكومة ووزيرَي المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف، وكان موضوعه مناقشة استحقاقات “اليوروبوندز”، وخلص الى اصدار بيان يؤكد وقوف الحاضرين بالاجماع الى جانب الحكومة في أي خيار ستعتمده في مجال إدارة الديون “باستثناء دفع الديون المستحقة”.

وخلال السنوات الثلاث الاخيرة تعرضت حكومة حسان دياب لاتهامات عديدة من مسؤولين سياسيين وماليين ومن خبراء اقتصاد ومال محاولين تحميل حكومة تسلمت صلاحيتها في شباط 2020 كل الأزمات المالية والاقتصادية، غير المسبوقة والمتراكمة منذ ثلاثة عقود من تدمير الاقتصاد، الى انهيار القطاع المصرفي، وتدهور سعر صرف الليرة، ووقف التدفقات المالية والتحويلات من الخارج، وإغلاق الاسواق المالية العالمية أمام إصدارات الدولة، إلى عجزَي المالية والحساب الجاري. إتهامات أجدها غير منصفة وغير عادلة.

لذا وجدت أن من المفيد إخضاع قرار تعليق الدفع للتقييم الوطني الجدي والتقني والعلمي والموضوعي، بعيدا من لغة الغوغائية والتسييس، وبعيدا من محاولات التهرب من المسؤوليات وتحميلها للغير، على جاري عادة الكثير من القيادات اللبنانية، تاريخياً. هل كان قرار تعليق الدفع صائباً أم خاطئاً ومَن يتحمل المسؤولية؟ ما هو حجم احتياطات مصرف لبنان بالعملات الاجنبية المتبقية بعد ثلاث سنوات من اتخاذ القرار؟ ما هو حجم الوفر الذي تحقق نتيجة عدم دفع أصل الدين وخدمته بالعملات الاجنبية في السنوات الثلاث الاخيرة؟ ما هو حجم الدين العام ما بعد القرار؟ أسئلة كثيرة، سأحاول الاجابة عنها في هذه المقالة.

واجهت الحكومة ضغطًا قويًا من قوى سياسية نافذة، ومن الشارع، ومن مجموعات الانتفاضة، ومن وسائل الإعلام، ومن الخبراء المطالبين بإلحاح جميعاً بعدم الدفع واستخدام الأموال لتأمين الحاجات المعيشية للمواطنين وحماية اموال المودعين

إضطُرت الحكومة اللبنانية في 7 آذار 2020 الى اعلان القرار التاريخي والصعب بتعليق سداد “اليوروبوندز” وليس وقف سداد “اليوروبوندز”. هذا القرار اتخذته الحكومة ليس بسبب عدم رغبتها في سداد الدين، بل بسبب عدم قدرتها على السداد في المرحلة المقبلة نتيجة الازمات الاقتصادية والمالية المستفحلة. واتُّخذ مع قرار تعليق السداد قرار آخر خاص بالتفاوض مع حاملي سندات “اليوروبوندز” بشكل منصف وبحسن نية، اضافة الى إعداد خطة مالية واقتصادية شاملة للدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي. وكان هدف الحكومة تحقيق اعادة هيكلة منظمة للدين أو تحقيق تخلّف منظم Orderly Default.

أما المسببات الرئيسية التي دفعت الحكومة الى تعليق دفع سندات “اليوروبوندز”، فهي الآتية:

  • محدودية احتياطات مصرف لبنان من النقد الاجنبي، وهي المصدر الوحيد للحكومة لسداد الديون بالعملات الاجنبية وتمويل مدفوعاتها الخارجية، بعدما كان لبنان قد فقد قدرة اللجوء الى الاسواق المالية العالمية منذ العام 2017، وبعدما فقد المودعون الثقة بالمصارف بعد 17 تشرين الاول 2019.

  • بلغت احتياطات مصرف لبنان بالنقد الاجنبي في ذلك الوقت 29.5 مليار دولار باستثناء سندات “اليوروبوندز” البالغة 5.8 مليارات دولار كما في نهاية العام 2019. وهي تكفي الدولة لعامين فقط اي 2020 و2021 لسداد استحقاقات اصل الدين وفوائده بالعملات الاجنبية البالغة 9.3 مليارات دولار، ولتغطية العجز في الميزان التجاري لاستيراد القمح والادوية والمحروقات البالغة قيمتها اكثر من 12 مليار دولار، ولمنح مصرف لبنان قروضا للقطاع المصرفي لتغطية التزاماتها الخارجية البالغة 7 مليارات دولار.

  • أيدت المؤسسات المالية الدولية وجهات أخرى معنية في الخارج قرار الحكومة تعليق دفع الدين العام بشكل منظم، معتبرين أن التخلف حتمي في المرحلة المقبلة.

  • واجهت الحكومة ضغطا قويا من قوى سياسية نافذة، ومن الشارع، ومن مجموعات الانتفاضة، ومن وسائل الإعلام، ومن الخبراء المطالبين بإلحاح جميعاً بعدم الدفع واستخدام الأموال لتأمين الحاجات المعيشية للمواطنين (الادوية، القمح، المحروقات إلخ…) وحماية اموال المودعين.

  • اعتبرت وكالات التصنيف العالمية طرح حاكم مصرف لبنان اجراء عمليات Swap على سندات “اليوروبوندز” على المصارف بحيث يعطيها سندات طويلة الاجل من محفظته بدل سندات قصيرة الاجل تحملها بمثابة “تخلّف انتقائي عن الدفع”. وسوف يؤدي الى خفض تصنيف الدولة اللبنانية الى Selective Default، ما معناه تخلّف الدولة عن الدفع.

  • خفضت وكالات التصنيف الدولية التصنيف الائتماني للدولة الى مستويات متدنية من -B الى -CCC في الفصل الاخير من العام 2019، ومؤدَّى ذلك ان الدولة اللبنانية لم يعد لديها امكان اللجوء الى الاسواق المالية العالمية لتمويل حاجاتها، علما بأن اسعار سندات “اليوروبوندز” إنخفضت في الاسواق المالية العالمية اكثر من 35%.

في هذا السياق، لا بد من الاشارة الى ان تراجع اهتمام المستثمرين الاجانب بسندات “اليوروبوندز” اللبنانية بدأ منذ العام 2016، مما اضطر مصرف لبنان الى زيادة اكتتاباته في سندات “اليوروبوندز” مكانها من 980 مليون دولار عام 2016 الى 5850 مليون دولار نهاية عام 2019.

  • فقدَ القطاع المصرفي ثقة المودعين والمستثمرين بفعل القرارات العشوائية التي مارسها منذ تشرين الثاني 2019، لا سيما عندما قرر تحديد السحوبات ووقف التحويلات الى الخارج (باستنسابية) والغاء البطاقات الائتمانية وتجميد العمليات التجارية، فضلاً عن الإقفال لمدة طويلة.

  • تدهور سعر صرف الليرة وخرج عن السيطرة بدءاً من ايلول 2019، بفعل تراجع قدرات مصرف لبنان على الاستمرار في حماية الاستقرار النقدي، فظهر بقوة أمام الجميع سوق صرف موازية للدولار. وبين أيلول 2019 وشباط 2020 تراجع سعر صرف الليرة اكثر من 73%، من 1507 ليرات الى 2600 ليرة للدولار.

  • بات الدين العام غير مستدام، اذ بلغ 91 مليار دولار في نهاية 2019 متجاوزا 175% من الناتج المحلي، وهي ثاني اعلى نسبة في العالم. وتشكل خدمة الدين 50% من الايرادات العامة و35% من الإنفاق العام.

أما مدفوعات سندات “اليوروبوندز” من اصل الدين والفوائد فقيمتها 4.5 مليارات دولار سنويا على مدى السنوات المقبلة.

تراجع اهتمام المستثمرين الاجانب بسندات “اليوروبوندز” اللبنانية بدأ منذ العام 2016،

حصل بيع كثيف من قِبل المصارف اللبنانية لسنداتها من “اليوروبوندز”، لمصلحة الدائنين الاجانب، وذلك بين تشرين الاول 2019 وآذار 2020 بقيمة تجاوزت 3.2 مليارات دولار

أسباب تعثّر إعادة الهيكلة المنظمة للدين العام:

عملت الحكومة جاهدة على اعادة الهيكلة المنظمة للدين العام، إذ اعتمدت على مبدأ التفاوض مع الدائنين، والدخول في برنامج مع صندوق النقد الدولي، وإعداد خطة للتعافي المالي، بمبادئ وبنود إصلاحية شاملة، لكنها واجهت معوّقات متعددة أدت الى تعثرها في مسعاها وبالتالي لم يتحقق التخلف المنظم، ويذكر من تلك العراقيل ما يأتي:

  • حصل بيع كثيف من قِبل المصارف اللبنانية لسنداتها من “اليوروبوندز”، لمصلحة الدائنين الاجانب، وذلك بين تشرين الاول 2019 وآذار 2020 بقيمة تجاوزت 3.2 مليارات دولار، ما جعل قرار اعادة الهيكلة المنظمة للدين معقداً وصعباً وخارج سيطرة الحكومة. وبات بحوزة الدائنين الاجانب اكثر من 15 مليار دولار من السندات، مقابل اقل من 11 مليار دولار للمصارف اللبنانية.
  • كما أدى البيع الكثيف لسندات “اليوروبوندز” من قِبل المصارف اللبنانية الى حصول الدائنين الاجانب على حق “الفيتو”، أي حيازة الدائن اكثر من 25% من الاستحقاق، ما اطاح جهود اعادة الهيكلة المنظمة للدين.

وتوزعت حيازة سندات “اليوروبوندز” من قِبل حاملي السندات الاجانب في 15 شباط 2020 على الشكل الآتي: 34% Ashmore، 13.7% Blackrock، 11.7% Fidelity. وتوزعت استحقاقات اصدارات سندات “اليوروبوندز” البالغة 2.5 مليار دولار في العام 2020 على الشكل الآتي: 1200 مليون دولار في آذار، 700 مليون دولار في نيسان، و600 مليون دولار في حزيران.

  • أجهضت بعض القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف خطة الحكومة للتعافي المالي فتوقف التفاوض مع الدائنين وتعذرت عملية تطبيق هيكلة الدين المنظمة.

  • لم تتمكن الحكومة من اعتماد خيار “التماس الموافقة” Consent Solicitation لاعادة هيكلة الدين بعد 9 آذار 2020 وهدفه اعطاء الحكومة فسحة من الوقت للتفاوض مع الدائنين والحصول على موافقتهم لتعديل شروط سندات “اليوروبوندز”. ويعود ذلك الى ضيق الفترة الزمنية للتفاوض مع الدائنين، اي الى اقل من عشرة ايام، بينما يوجب القانون الدولي ابلاغ هؤلاء بنيّة عدم دفع الدين قبل 21 يوما من الاستحقاق، اضافة الى اضطرارها لسداد خدمة دين مستحقة بقيمة 370 مليون دولار.

  • تفاقم التباينات واحتدام السجالات بين الحكومة ومصرف لبنان حول تقييم الخسائر وتوزيعها أدّيا الى تأخير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ثم الى تعليقها، والى تراجع ثقة الدائنين الأجانب.

  • تعثّر المفاوضات مع إحدى كبريات المجموعات الدائنة التي بحوزتها اكثر من 25% من الاستحقاقات، ما يعني لديها “حق فيتو” لاشتراطها سداد الحكومة استحقاقات الدين لعام 2020 ودخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي قبل البدء بالمفاوضات مع الدولة.

أجهضت بعض القوى السياسية ومصرف لبنان والمصارف خطة الحكومة للتعافي المالي فتوقف التفاوض مع الدائنين وتعذرت عملية تطبيق هيكلة الدين المنظمة.

كان قرار تعليق الدفع صائباً لو نُفّذ كما يجب ولو لم يتعرض لضربات من جهات صديقة وغير صديقة

وأريد ان أوضح هنا، للرأي العام، ان الحكومة باشرت المفاوضات مع كبار الدائنين الأجانب قبل قرار تعليق الدفع، أي في النصف الثاني من شباط 2020، ثم تابعت مفاوضاتها معهم عبر تقنية Zoom وعبر المستشارين “لازار” و”غوثليب” على عكس ما سمعنا من اتهامات متكررة وادعاءات زائفة ضد الحكومة بتقاعسها عن القيام بواجباتها التفاوضية وذلك على لسان مسؤولين سياسيين وماليين ومحللين وخبراء.

وفي الختام يمكن القول ان قرار التخلف عن السداد ليس هو المسؤول عن الازمات التي انفجرت في نهاية 2019، وليس مسؤولا عن توقف التدفقات المالية، وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي، وانهيار الليرة، والكساد الاقتصادي، وعدم قدرة الدولة على اللجوء الى الاسواق المالية العالمية… وذلك على عكس ما صرح ويصرّح به عدد من المسؤولين السياسيين والماليين والمصرفيين والخبراء الذين يحمّلون حكومة حسان دياب كل تلك التداعيات للهروب من مسؤولياتهم، فالأزمة كانت مستفحلة ومتفجرة قبل تشكيل حكومة حسان دياب، وبالتالي كان قرار تعليق الدفع صائباً لو نُفّذ كما يجب ولو لم يتعرض لضربات من جهات صديقة وغير صديقة.

مقالة وزني نشرتها “النهار”

المقال السابق
هل اعتبار ترشيح فرنجيّة مجرّد تحديث لمعادلة "مخايل الضاهر أو الفوضى" يعوّم معادلة "التفاهم" العوني- القواتي؟
نيوزاليست

نيوزاليست

مقالات ذات صلة

صحيفة أميركية تُعدّ تقريرًا عن نصرالله لنشره "بعد قتله"

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية