منذ الثامن من تشرين الأول ٢٠٢٣، وآلة القتل الإسرائيلية تفتك ببيئة حزب الله من قادة وكوادر ومدنيين، قبل أن تبدأ بأخذ مداها والتوسّع منذ ما يقارب الشهرين، لتطال عددا كبيرا من المناطق اللبنانية من خلال غارات يوميّة تسبّبت بمقتل المئات من الأطفال والنساء والشيوخ، وبمحو بلدات عن “بكرة أبيها”.
هذا الإجرام المتمادي دفعنا إلى التأمل بأدبيات محور المقاومة وإعلامه، حيث دأب على تصوير ما يحدث بـ”الانتصار”، هو الذي، دونًا عن شعوب وأعراق وجنسيات الأرض كلها، ثابر على ادعاء النصر قبل حتى أن تبدأ الحرب.
ولكن… أليس للنصر أدبيات خاصة به؟ ألا يعني الانتصار تفوّق على العدو بالعتاد والعديد ودحره والقضاء عليه؟ ألا يكون في أن يعيش المواطن في بيته آمنًا، مطمئنًا على حياة أبنائه ومستقبلهم؟
ما هذا “الوسواس” الذي اسمه “الإيحاء بالنصر”؟ هل هو انكار للواقع؟
قبل أيام، قال الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم “إن مقاتلينا أعاروا جماجمهم لله”، محاولًا الإيحاء بأن مقاتليه لا يهابون الموت، ثم أضاف متحدّيًا: “…ليس في قاموسنا إلا الرأس المرفوع، والانتصار للمقاومة، مع هؤلاء المقاومين الشرفاء الأبطال الذين سجدوا لله، ولن يسجدوا لأحد على الإطلاق في هذا العالم، والاستشهاديون الذين باعوا جماجمهم وأنفسهم لله تعالى، لا يمكن إلا أن ينتصروا…”
ماذا يصيب العقل البشري لكي يتغاضى عن كل هذا ا لكم من المآسي، ويقتنع بأن الكوارث التي تلحق به هي انتصارات، وأن من يقول عكس ذلك هو خائن ومتآمر وعميل؟ وماذا سيحل به عندما يستفيق فيرى فلذات أكباد حامله “جماجم في سبيل الله”، وجنى عمره رمادًا، وواقعه هزائم حقيقية لا انتصارات زائفة؟
والمفارقة أنّ المقتنعين “بالنصر” هي الفئة الأكثر تضررًا في هذه الحرب، من الثكالى والأرامل واليتامى، كتلك الأم التي جثت فوق كفن ولدها محمّلة إياه سلامًا إلى السيّد حسن وهي تقول له: ” كسرني السيّد يا ماما هو وحده من كسرني، وأنت متّ فدا السيّد”، وإلى جانبها والده يشتم “رائحة القطر التي تفوح منه” كما يقول، أو هذه الأرملة العروس التي فقدت عريسها وهي في شهر عسلها مؤكدة أنّ كلّ ما رأته وسوف تراه هو الجمال بعينه، أو ذاك الطفل الممدّد فوق نعش والده واعدًا إياه بالسير على خطاه…
في علم النفس لا يوجد ضعيف إزاء الشعور بالحزن، حتى لو كان للثقافة والمجتمع والبيئة التي نشأ فيها الفرد نظرة خاصة تجاهه، وأجمعت الدراسات على “أن البكاء هو منفذ جسدي للتعبير عن المشاعر، وأنّ إطلاق العواطف الأساسية مثل الحزن، أمر حيوي للصحة العاطفية والجسدية، حتى الأمين العام الراحل لحزب الله حسن نصرالله قال خلال تأبينه للقيادي فؤاد شكر: “نحن في مثل هذه الأحداث، كما في موضوع القادة الذين س بقوا، نعترف بالألم والحزن لأننا بشر طبيعيون…” قبل أن يستدرك ويتابع: “ولكن نجمع بين الحزن للفراق والغبطة لهؤلاء القادة أن خُتم لهم بالشهادة…”
لقد عرفت البشرية عبر التاريخ مآس وتجارب مماثلة، وحاول الأشخاص لتخطي مآسيهم، النكران أو الإيحاء لعقلهم بأنهم يعيشون أشياء جميلة، وكان أول من نادى بهذه النظرية، الفرنسي Emile Coué (١٨٥٧- ١٩٢٦)، صاحب العبارة التي تفوقه شهرة: ” في كل يوم وفي كل مكان، وبفضل الله أتقدم من الحسن إلى الأحسن”.
فهل الإيحاء بالنصر والنكران يجديان نفعًا؟ وهل تكرار العبارات الإيجابية يبقى مفيدًا دائمًا؟
كرّست الباحثة غابرييل أويتنغن Gabriele Oettingen، أستاذة علم النفس في جامعة نيويورك وجامعة هامبورغ، جزءًا كبيرًا من مسيرتها المهنية حول هذا الموضوع، إذ أجرت العديد من الدراسات على آلاف شخص، وخلصت إلى أنّ “التصورات والعبارات المكرّرة والتي تتضمّن سلوكيات إيجابية قد تعطي نتائج جيّدة في ما يتعلق بتحقيق الأهداف العملية، إنما أن تدخل هذه السلوكيات ضمن دائرة النكران الكلي للواقع، فهنا قد تتحوّل إلى آفة قد تقضي على صاحبها”، كما تقول.
وينصح إيف ألكسندر تالمان الباحث العلمي في جامعة فريبورغ في سويسرا باستخدام عبارات إيحاء ذاتي تتماشى مع الواقع بعيدًا عن الع دائية والتحدّي، ويقول: ” يمكن للإيحاء الإيجابي أن يُساهم في تحسين الحياة، ولتحقيق هذه الغاية، لا ينبغي أن تبقى العبارات مجرد كلمات جميلة تُردّد ببغائيًا لإرضاء فئة أو لإغاظة أخرى”.
إلا أنه وسط هذه المآسي والويلات التي يعيشها هؤلاء الأشخاص، قد يكون من الحكمة “المكابرة” والاحتماء في شرنقة الوهم قبل الاستفاقة على واقع سيكون فيه للأسف، الكثير من الأحزان والأتراح.