من يستطيع أن يجيب عن السؤال الأبدي: كيف ننجح في أن نكون سعداء راضين ونتمتّع بصحة جيّدة وعقل سليم ونحن نمضي أيامنا على هذه الفانية؟ هذا السؤال “الأبدي” أجابت عنه دراسة ضخمة امتدت على خمسة وثمانين عامًا بيّنت مسألتين متلازمتين: الاهتمام بالصحّة و…الأصدقاء.
في كتابه The Good Life، قدم البروفسور روبرت والدينجر Robert Waldinger أطول دراسة أجريت على الإطلاق حول السعادة والصحة، إذ امتدت على مدى ٨٥ عامًا، بعنوان “دراسة هارفارد لتنمية البالغين”، وكان أول من بدأ بإجرائها مستشفى ماساتشوستس العام في بوسطن، عام ١٩٣٨ مع ٧٢٤ مراهقًا و٢٨٦ طالبًا من جامعة هارفارد و٤٥٦ طفلًا من أفقر الأحياء المحرومة في بوسطن، لتبقى وتستمر وتتطوّر مع دكتور الطب النفسي والأستاذ في كلية الطب بجامعة هارفارد Waldinger بحيث شملت شركاءهم وأحفادهم البالغ عددهم ١٣٠٠.
وبهدف التعرّف على أكبر عدد ممكن من البيانات العلمية وعلى مسار حياة الآلاف من الأشخاص خلال الأجيال، وكيف يتطوّر وضعهم الصحّي والعقلي والبدني، إضافة التغييرات التي تطرأ على حياتهم المهنية منذ السنوات الأولى لمراهقتهم ولغاية سنّ الشيخوخة، حرص فريق البروفسور Waldinger على إجراء فحوصات طبيّة ومقابلات نفسيّة واجتماعية، للمشاركين وذلك كل سنتين، ليكتشف “العنصرين الأساسيين لصحة الإنسان وسعادته”، كما يقول.
ويقوم العنصر الأول على اهتمام المرء بصحته، بحيث وجد أنّ الأشخاص الذين يهتمون بها، يتمتعون بعمر أطول وصحة أفضل مع تقدمهم في السنّ، والاهتمام بها يكون من خلال عدم التدخين وعدم تعاطي الكحول أو المخدرات وممارسة الرياضة بانتظام والذهاب إلى الطبيب عند الضرورة…
إلا أن الاكتشاف الثاني المثير للدهشة والذي يشكل “قلب الدراسة” كما أسماه، هو أهمية العلاقات الاجتماعية وما تلعبه من دور كبير على مستوى صحة المرء وسعادته، إذ يعتبر “أنّ وجود علاقات جيّدة لا يجعله أكثر سعادة طوال حياته فحسب، بل يتيح له أيضًا أن يعيش لفترة أطو ل وأن يحافظ على صحته مع تقدّمه بالعمر”.
ووفقًا للدراسات المختلفة التي اعتمد عليها أثناء بحثه، تبيّن أنّ الأفراد الذين لديهم عدد قليل من العلاقات الاجتماعية، فإنّ معدّل وفاتهم أعلى من ٢،٣إلى ٢،٨مرة من الأفراد الاجتماعيين، والأهم من هذا هو أن الروابط الاجتماعية تزيد من فرص البقاء على قيد الحياة على مدار العام بنسبة تزيد عن ٥٠٪.
ولكن ماذا الذي يقصده ب”العلاقات الجيّدة”؟
يعتبر Robert Waldinger أنّ العلاقات الجيّدة هي التي تقوم على الدعم المتبادل أي التي “يتلقى فيها المرء بقدر ما يُعطي”، ويوضّح: “أي تلك التي تسمح له بأن يكون أصيلًا، بمعنى آخر أن لا يضطر إلى اخفاء جوانب مهمة من شخصيته، مع ضرورة إبقاء مساحة للتطوّر والتشجيع على التغيير، فكونه يتغير باستمرار، فمن المهم جدًا أن يكون لديه علاقات وثيقة تتيح للآخر تقبّل تغيّراته”.
كما اعتبر Waldinger في بحثه “أنّ مثل هذه العلاقات تجلب السعادة أكثر من المال والنجاح …”
ويستشهد في كتابه The Good Life بقصة كل من جون مارسدن John Marsden وليو دي ماركو Leo DeMarco ويقول: كلاهما من خريجي جامعة هارفارد، كان أحدهما محاميًا مشهورًا والآخر مدرّسًا في مدرسة ثانوية. اعتبر أحدهم من أكثر المشاركين تعاسة في الدراسة، والآخر من أكثرهم سعادة، كان المدرّس الثانوي أسعد بكثير من المحامي الذي كان أكثر شهرة وثراء.
ويعيد سبب سعادة المدرّس بأنه حافظ على علاقات أفضل وتقارب أكبر مع الأشخاص الأكثر أهمية له، في حين كرّس المحامي حياته لمسيرته المهنية ونجاحه المالي.
وعن العبرة من القصّة يقول والدينجر: “المال لا يجعل الناس أكثر سعادة. بمجرد أن يتمكّن المرء من توفير احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب وملبس، يصبح فائض المال لا معنى له، والشيء نفسه ينطبق على.. النجاح”.
وفي استطلاع آراء لأشخاص بلغوا الثمانين من عمرهم وقد حققوا خلال حياتهم إنجازات جد مهمة، يقول والدينجر “عندما طلبنا منهم أن يتحدّثوا عن أكثر ما كانوا فخورين به خلال حياتهم، جاءت ردودهم بالإجماع بأنهم كانوا فخورين بكونهم أباءًا جيّدين أو أصدقاء أوفياء أو مدرّسين متفانيين… واللافت أن أحدًا لم يذكر لا المناصب القيادية ولا الجوائز التي حصدها”.
ولكن كيف للعلاقات الجيّدة أن تنعكس بالإيجاب على الأشخاص وعلى ظروفهم المعيشيّة؟
يعتبر والدينجر انّ أفضل فرضية لتفسيرها، هي معرفة مدى تأثيرها على طاقة المرء وجهوده، ويرى أنّ العلاقات الجيّدة تساعد المرء على الهدوء، مثلًا إذا حدث شيء مرهق وكان لديك شخص ما “لتفضفض” معه بشأنه، ستشعر على الفور بالهدوء والسّكينة، “فبتقرّب الزوجين من بعضهما البعض والأصدقاء وحتى أي فرد من أفراد العائلة قد يساعد “على اجتياز أصعب التجارب في الحياة” كما يقول.
والجدير بالذكر أنّ المشاركين في الدراسة قد عانوا في حياتهم من مشاكل عديدة فمنهم من كان جنديًا في الحرب العالمية الثانية ومنهم من واكب الأزمة المالية في العام ٢٠٠٨، وجميعهم أجمعوا على أنّ العامل الأساسي وراء تخطيهم تلك الأزمات كان الدعم الذي تلقوه من محيطهم، في حين أن الأشخاص الذين فضلوا العزلة، عانوا من القلق لفترة أطول، ويعيد والدينجر السبب إلى أنّ مستويات هرمون التوتر لديهم تكون أعلى، مما يؤدي على المدى الطويل إلى الإضرار بالتوازن النفسي والجسدي من خلال تدمير الدماغ والجهاز العصبي بأكمله.
كما يعتبر أنّ الأشخاص الذي يعيشون ما يسمّى بالعلاقات السّامة هم أقل تمتّعًا بالصحّة من الآخرين فبمجرد أن تلمّ بهم وعكة صغيرة حتى يشهدوا تدهورًا كبيرًا في حالتهم.
ويشدّد والدينجر على نوعية العلاقة الاجتماعية وليس على الكميّة، ب حيث يعتبر أنه لا يوجد عدد محدّد من الأصدقاء للوصول إلى حالة السعادة ويقول: “يكفينا شخص أو شخصين لنعرف أنهما سيكونان هنا من أجل دعمنا في الأوقات الصعبة، بالطبع، كل هذا يتوقف على شخصية كل فرد. فكما هناك شخصية انطوائية تفضّل عدم التفاعل الاجتماعي اليومي هناك أخرى لا يمكنها الاستمرار من دون التواصل مع أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، إلا أنه ينفي أن يكون لطول فترة العلاقة أي أهمية، فمشاركة الذكريات والخبرات مع أصدقاء قدامى قد تكون مسليّة ولكنها لا تجلب بالضرورة السعادة، كذلك ليس بالضرورة أن تكون العلاقات وطيدة داخل أفراد العائلة الواحدة كل ما يهم هو ببساطة عدد قليل من العلاقات الوثيقة للغاية.
وطالما أنّ الصداقة هي مفتاح لتحقيق السعادة وللتمتّع بأفضل صحّة ممكنة يبقى من المفيد العمل بنشاط للحفاظ عليها ولبناء روابط جديدة من دون بذل جهود كبيرة ويقول والدينجر: “إذا شعرنا أننا نفتقد لشخص ما ونودّ رؤيته، على سبيل المثال، يمكننا إرسال رسالة نصية قصيرة أو بريد إلكتروني نقول له فيه: مرحبًا، أنا أفكر فيك… ويومًا بعد يوم، يمكن لهذه الإيماءات الصغيرة أن تغيّر الحياة، وهكذا تصبح السعادة في متناول اليد”.