في انعكاس أوّلي للشعور الإسرائيلي بالتفوّق على “محور المقاومة” بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران، بعد “النتائج العكسية” التي انتهت اليها عملية السابع من أكتوبر، نسمع صخبًا كبيرًا – وهو يعلو يوما بعد يوم- عن إمكان عودة الاستيطان الى الإسرائيلي الى قطاع غزة وعن وجود من يطالب بتوسيعه ليشمل أجزاء مهمة من جنوب لبنان، بعد إعادة احتلاله في العملية البرية المستمرة، منذ نهاية أيلول الماضي.
هناك من لا يصدق بإمكان أن يتحوّل هذا الصخب المتطرف الخاص بإعادة التوطين هنا وبتمديد التوطين الى هناك، ويجادل بأنّ كل ذلك لا يعدو كونه نكتة سمجة تصدر عن اقلية متطرفة مأخوذة بالأساطير التوراتية، ولا يمكن بالتالي اخذه على محمل الجد.
هذا الاستخفاف سبق أن اعتُمد يوم بدأت مجموعات هامشية من غلاة المتطرفين الإسرائيليين بالدعوة والعمل على استيطان الضفة الغربية عقب احتلالها العام ١٩٦٧. يومها كان يوصف هؤلاء الداعون الى استيطان الضفة الغربية بالمجانين المهووسين. ولكن ماذا كانت النتيجة؟ أكثر من نصف مليون مستوطن (عدا مستوطني منطقة القدس الكبرى) ينتشرون الآن في كل نواحي الضفة ويتوزعون بين مستوطنات صغيرة الحجم وتكتلات استيطانية كبيرة. هؤلاء باتوا يشكلون العقبة الأكبر في وجه إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ويخطئ من يظن بأنّ الاستيطان يأتي نتيجة عمل وضغط تمارسهما مثل هذه المجموعات الهامشية، لأنّه، في الواقع، ناتج عن سياسة مدروسة تدفع بها الحكومة الإسرائيلية قدما كلّما سنحت لها الظروف المناسبة لذلك، فتحقق من خلالها أهدافا توسعية مرتبطة بهواجس دفاعية وأمنية. عمليًا، يمكن اعتبار هذه المجموعات من المتطرفين مجرد أداة من أدوات تنفيذ تلك السياسة تحركها الدولة او تستثمرها عند الحاجة.
لقد أصبحت وراءنا فترة نهاية التسعينات وبداية الالفية الثانية، عندما كان المزاج العام الشعبي والسياسي في إسرائيل يميل الى المبادرات الأحادية في فض الاشتباك مع اعدائه والانفصال التام عن الفلسطينيين بهدف الحصول على امن الدولة الإسرائيلية. ففي ظل هذه القناعة أنهى العمالي ايهودا باراك احتلال الشريط الحدودي في جنوب لبنان ربيع عام الفين ليلحق به اليميني ارييل شارون بعد بضعة سنوات ويسحب جيشه من كامل غزة وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية في القطاع فيما وصل القادة من اليمين واليسار الإسرائيليون الى حافة الانسحاب شبه الكامل من الضفة الغربية.
بعد السابع من تشرين الأول 2023 والحرب المفتوحة التي تلته، يظهر بأن فكرة الاحتلال الدائم للأراضي وزرعها بالمستوطنات الصهيونية لتكون بمثابة المتراس الأول للدفاع عن إسرائيل بدأت تشق طريقها الى دوائر القرار الإسرائيلية. ولا عجب بذلك. فمن يقود هذه الحرب ويتفنّن في إعطائها التسميات الكبيرة من حرب الانبعاث الى حرب الاستقلال الثانية ليس سوى بنيامين نتنياهو الذي وقف في العام ٢٠٠٥على يمين ارييل شارون واستقال من حكومته احتجاجا على الانسحاب من غزة وتفكيك المستوطنات فيها.
الحديث عن إعادة الاستيطان الى غزة وتهجير سكانها الفلسطينيين، بدأ في إسرائيل باكرا، وذلك بعد وقت قصير من اندلاع الحرب، وتصدّره على المستوى السياسي الوزيران المتطرفان بن غفير وسموتريش، فيما مثلته على المستوى الشعبي الناشطة الاستيطانية المعروفة دانييلّا فايس التي تتزعم حركة “ناشالا” التي تعمل منذ فترة طويلة على تشجيع الاستيطان في الضفة الغربية، وهي الآن تركّز على ما تسميه التحضير لاستيطان غزة.
فايس كانت نظمت مؤتمرا لهذه الغاية في كانون الثاني الفائت بحضور المئات من المؤيدين، ولكن بتغطية سياسية بحدّها الأدنى فيما استدعى المؤتمر ادانات دولية واضحة. غير أنّ هذه الحركة آخذة في التصاعد وبالحصول على الاحتضان السياسي من الائتلاف الحاكم مع الاقتراب من فتح النقاش عن مصير الاحتلال الإسرائيلي لغزّة. كان لافتا للانتباه مؤتمر “التحضير لاستيطان غزة” الذي عقد الاثنين الفائت على حدود القطاع بالقرب من معبر نتساريم والذي جاء هذه المرة بدعوة واضحة من حزب الليكود الحاكم ونظمته حركة “ناشال” وحضره مئات المتطرفين الذين أتوا بغالبيتهم من مستوطنات الضفة. اللافت أيضا الحضور السياسي الكثيف وعلى أعلى المستويات والكم الكبير من الكلام المتطرف الذي تخلله. فقد شارك في المؤتمر أثنا عشر وزيرا وما لا يقل عن عشرة نواب من حزب نتنياهو، الليكود، وأسهبوا جمعيهم في كشف ما يتصوروه لعزة بعد انتهاء القتال.
“لقد فقد الغزّيون حقهم بالعيش في القطاع بعد السابع من تشرين وعليهم ان يغادروا” و” سوف نستوطن غزة من شمالها الى جنوبها”، قالت فايس في افتتاح المؤتمر. وأضافت فايس “أتوقع انه بعد سنة من الآن سوف يأتي الاعلام الى غزة ليشهد على بناء أوّل مستوطنة وبأن العرب قد غادروا” واكملت مدعية بان لديها الآن ما يزيد عن سبعمائة عائلة جاهزة للسكن في غزة حال تسمح الظروف بذلك فيما ادّعى وزير المالية سموتريش ان غزّة هي جزء من ارض إسرائيل وان لا أمن لإسرائيل من دون المستوطنات في القطاع. وبدوره ردّد وزير الامن بن غفير خلال المؤتمر دعوته الى تشجيع الفلسطينيين على المغادرة وان ذلك برأيه هو الحل الأكثر “أخلاقية” للصراع بينما ذهبت الوزيرة من حزب الليكود مي غولان للقول الى حد القول بأن “سلب الأراضي” من العرب “هو أكثر ما يؤلمهم” وبأن المستوطنات في الضفة قد جلبت الامن لإسرائيل. وفي نوع من المزايدة الكلامية رأى نائب الليكود كالنر ان “المستوطنات هي التي تشكل الانتصار الكبير” مضيفا ان “ما يعتبرونه دار الإسلام سوف يصبح دار اليهود”. وعندما طلب الصحفيون من نتنياهو الذي لم يكن حاضرا التعليق على المؤتمر أجاب مراوغا بانه كان منشغلا بالردّ على اتصالات قادة العالم لتهنئته بميلاده الخامس والسبعين.
جنوب لبنان
ولجنوب لبنان أيضا حصته من المتطرفين الإسرائيليين الداعين الى استيطانه وان كانت حركة هؤلاء والتي أطلق عليها اسم “اوريت زافون” وترجمتها “انهض يا شمال” أكثر هامشية حتى الساعة من شبيهتها في ما يتعلق بغزة. غير ان ما يدعو للقلق انها بدأت، كمثيلاتها في الضفة، كحفنة من الموتورين الشديدي التطرف ينظمون المؤتمرات والتجمعات وحلقات النقاش ويجهدون لتوسيع دائرة مؤيديهم. لقد شاركت دانييلا فايس برفقة زميلة لها من رواد حركة الاستيطان في الصفة تدعى يهوديت كاتسوفر في احدى حلقات نقاش نظمتها “اوريت زافون” مما اعطى الحركة دفعا إعلاميا واضح. يكفي تصفّح موقع هذه الحركة الالكتروني للتيقن من خطورة هذه الحركة التي تراقب عن كثب تطورات الجبهة في جنوب لبنان وتتحين الفرصة لمحاولة وضع افكارها الجهنمية موضع التنفيذ وكذلك تأمُّل ما يعتبرونه آفاق مشروعهم حسب ما جاء على موقعهم الإلكتروني:
“مفتاح الأمن الحقيقي: الاستعمار في جنوب لبنان!
واليوم أصبح من الواضح للجميع أن السيطرة الإسرائيلية على جنوب لبنان ضرورية لأمن إسرائيل. ونحن ندعو إلى الاستيطان اليهودي في هذه المنطقة، التي هي جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل التاريخية. ونعتقد أن الوجود المدني الإسرائيلي وحده هو الذي سيضمن السيطرة المستقرة ويمنع المنطقة من أن تصبح مرة أخرى معقلاً للإرهابيين. رؤيتنا هي تحويل جنوب لبنان من تهديد أمني إلى أرض غنّاء ومزدهرة”.
ربما لا يرقى كل ذلك الى أكثر من كونه نوع من الفقاعات الإعلامية والهلوسات لحفنة من المتطرفين، غير أنّه، وعلى ضوء التجارب السابقة وتضخّم التيار الاستيطاني والديني وابتعاد الرأي العام الإسرائيلي بأغلبيته عن الخيارات السلمية وميل الطبقة السياسية في الدولة العبرية لمقاربات امنية مختلفة جذريا عن السابق، فمن الاجدى مراقبة هذه الحركات عن كثب واخذها على محمل الجد، والأهم التوقف عن خوض حروب غير متكافئة اتضح بما لا يقبل الشك بأنّها تخاض نيابة عن قوى خارجية لا تعبأ بالنتائج التي تدفعها شعوب البلدان التي تكون مسرحا لها ولا تؤدي الا الى اضعاف مناعة هذه الشعوب لمقاومة الاطماع التوسعية والاستيطانية الاسرائيلية.