بعد شهر ونيّف على تنفيذ حركة حماس لعملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزّة تتسارع الأحداث ميدانيًّا وسياسيًّا ولا تنفك تداعياتها عن الظهور تباعا على مستوى المنطقة، في حين بدأت ترتسم، ولو بقدر من الغشاوة، معالم ما قد تسفر عنه هذه الجولة من العنف غير المشهود.
فعلى المستوى الميداني وبعد أسابيع من القصف الجوّي الإسرائيلي الكثيف والتدمير الممنهج لقطاع غزّة ولنصفه الشمالي على الأخصّ ومقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين وجرح عشرات الآلاف منهم والتهجير الشامل للسكان، ارتفعت مؤخرا وتيرة العمليات البريّة للجيش الإسرائيلي في القطاع بسيطرة متدرجة على ساحة المعركة، في إشارة واضحة الى ان حكومة الحرب المصغرة لم تحد قيد انملة، حتى هذه الساعة، عن الهدف المعلن منذ بداية الحرب والمتمثل بتدمير البنية العسكرية لحركة حماس وطردها من غزّة. وما رفضُ الجانب الإسرائيلي، لأيّ نوع من وقف مؤقت لإطلاق النار لأسباب إنسانية او حتى لتسهيل البحث والتفاوض حول إطلاق الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حماس، سوى دليل على أنّ الميدان يبقى الأولوية المطلقة، وأنّ ساعة السياسة ما زالت بعيدة، وهي لن تدق قبل تبدّل جذري في ساحة المعركة. أمّا من جهة حماس فإن المعلومات شحيحة عن مدى تأثر بنيتها العسكرية بالضربات الإسرائيلية، وبالتالي فإنّ مدى قدرتها على الصمود ينتابها الكثير من الغموض، ولا يمكن اعتبار دعوتها إلى وقف لإطلاق النار دليلًا على ضعفها الميداني.
ساعة السياسة ما زالت بعيدة وهي لن تدق قبل تبدّل جذري في ساحة المعركة
إيران ووكلاؤها
في مقابل الحرب الطاحنة على قطاع غزّة طغت في الأسابيع المنصرمة الصبغة الاستعراضية على دعم إيران لحليفتها حماس عبر وكلائها في اليمن والعراق وسوريا. اما في لبنان الوطن- الساحة المنذور دائمًا لدفع الاثمان، فها هو يقدم من أرواح مواطنيه الأبرياء ومن اقتصاده المنهار ومن استقراره الهش ثمنًا لما اسماه الامين العام لحزب الله معركة إشغال الجيش الإسرائيلي بجولات يومية من المناوشات الحدودية التي كان الحزب قد أطلقها في الثامن من تشرين الأول الفائت. ان المستوى شديد التواضع لانخراط المحور الإيراني في دعم حماس يشير الى عملية اعادة حساب سريعة فرضها تهيّبه الواضح أمام حزم الرد الإسرائيلي وضخامته من جهة والإنذارات الأميركية المتكررة التي تستمد صدقيتها من الحشد غير المسبوق للأساطيل الأميركية على الشاطئ الشرقي للمتوسط، من جهة أخرى. وبات بالإمكان اعتبار أنّ إعادة الحساب تلك قد أودت باكرًا بمفهوم وحدة الساحات وزعزعت متانة التحالف مع حماس، فيما أوحت باستعداد محور إيران لتقبل الهزيمة وترك حماس لمصيرها، في حال لم يتبدل الوضع الميداني في غير مصلحة إسرائيل، الأمر الذي احتاط منه حسن نصر الله، بحذاقة، في خطابه نهار الجمعة الفائت، عندما ربط بين مستوى التصعيد على جبهة لبنان، من جهة وتطور الوضع العسكري على جبهة غزة، من جهة أخرى.
الداخل الإسرائيلي
من المتوقع ان وحدة الشعب الإسرائيلي التي تجلّت خلف قيادته وجيشه تحت عنوان القضاء على حماس واستعادة قدرة الردع لن تدوم طويلا ليعود الانقسام العامودي أخطر من ذلك الذي افرزته تعديلات نتنياهو القضائية
على المستوى الداخلي الإسرائيلي، أصبح من المسلّم به أنّ الإخفاق التاريخي على المستويات السياسيّة والأمنيّة والعسكريّة بما خلّفه من وقع الصدمة على الدولة العبرية بكل مكوناتها، سوف تكون له ارتداداته العميقة على المجتمع الإسرائيلي. رؤوس كبيرة في الدولة العبرية ابتداء من رأس الهرم فيها سوف تتدحرج تحت وطأة التحقيقات والمحاسبة، فور انتهاء العمليات العسكرية. ومن المتوقع أنّ وحدة الشعب الإسرائيلي التي تجلّت خلف قيادته وجيشه تحت عنوان القضاء على حماس واستعادة قدرة الردع لن تدوم طويلا ليعود الانقسام العامودي أخطر من ذلك الذي افرزته تعديلات نتنياهو القضائية. فلقد كسرت عملية السابع من تشرين الأوّل مفهوم ستار إسرائيل الحديدي المستوحى من نظريات الصهيوني المتطرف زئيف جابوتنسكي والقائمة على التفوق العسكري الكاسح الى حد اقتناع العدو بذاته باستحالة الحصول على اية مكاسب تحت تأثير العنف. منذ عقود اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بيمينها ويسارها مفهوم الستار الحديدي كمبدأ أساسي في سياساتها، على اعتبار أنّه الضامن الأول لاستمرارية وجود الدولة العبرية في هذه المنطقة والمحرّك الفعلي لجذب المهاجرين اليهود اليها باعتبارها الملجأ النهائي الآمن لهم وحجر الزاوية لنموذج اقتصادي مزدهر في بيئة آمنة، وهو كذلك العامل الأساس لكسب احترام ومهابة الدول الحليفة ولجر الدول العربية للاعتراف بها بالشروط الدنيا ،وهو السيف المسلط على الفلسطينيين لتأييسهم من إمكانية الحصول على حقوقهم الوطنية العادلة.
سوف ينقسم الإسرائيليون لوقت طويل حول ماهية ذلك الستار وطريقة ترميمه وسوف ينعكس ذلك على المشهد السياسي الداخلي الذي سينتابه الضعف وعدم الاستقرار وتنازع الرأي العام بين تيار التشدّد والاعتماد المطلق على القوة والايغال في منطق الاحتلال، وبين تيار أكثر واقعية يقرّ بعدم كفاية القوة وحدها كضمانة للوجود والامن الدائمين.
وبعد سنوات من الاستكانة الى وهم القوة المطلقة ادّت الى اهمال المسألة الفلسطينية ورميها منسية لتتفاقم خلف الجدران العازلة يستفيق الإسرائيليون على صدمة السابع من تشرين ليتلمّسوا بالدم والرعب استحالة تحصين وجودهم في ظل نكرانهم الدائم للحق الفلسطينيي وبان مواجهتهم للحقيقة المتمثلة باجتراح الحلول الضامنة للعيش بسلام جنبا الى جنب مع الشعب الفلسطيني أصبحت مسألة لا يمكن تجنبها على الرغم من تضاؤل الفرص في هذا المجال على وقع التوسع المستمر في للاستيطان وقضم الأراضي واتساع الهوة بين الشعبين الى حد النكران المتبادل.
كسرت عملية السابع من تشرين الأوّل مفهوم ستار إسرائيل الحديدي المستوحى من نظريات الصهيوني المتطرف زئيف جابوتنسكي والقائمة على التفوق العسكري الكاسح
الإقليم “غير الممانع”
على مستوى دول المنطقة خارج تلك التي تقع تحت هيمنة إيران وميليشياتها، جاءت مواقفها إن عبر حكوماتها أو صحافتها أو مجتمعاتها الأهلية تعبيرًا عن تضامنها مع اهل غزة واستنكارها لما يتعرضون له من تقتيل وتهجير على يد الجيش الإسرائيلي. كذلك فقد شهدت تلك الدول مبادرات تهدف لمد يد العون لأهالي غزة على المستوى الإنساني والاستعداد لمؤازرة الشعب الفلسطيني على المستوى السياسي. ولا بد هنا من الملاحظة أنّ تلك الدول، وعلى الرغم من فظاعة الاحداث الدائرة، فإنّها لم تشهد مواقف واعمال” متهورة” يمكن أن تؤدي الى تهديد استقرارها والمس بمصالحها الوطنية. ولعلّ ذلك يؤشر الى نوع من النضوج السياسي الشعبي والنخبوي في هذه الدول يحصنها من الوقوع في أفخاخ أجندات سياسية متطرفة وتدميريّة تستهدفها مباشرة ولو انّها تتحرك تحت ستار القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. في الأيام القليلة المقبلة ستشهد المملكة العربية السعودية انعقاد قمة للدول العربية وأخرى للدول الإسلامية للتباحث في المخارج المحتملة للحرب الدائرة.
هل سيفاجئنا القادة العرب هذه المرة بمقاربات نوعية جديدة قد تساهم بفتح كوة باتجاه حل مستدام للصراع المستعر ام يقعوت مرة جديدة في فخ الخلافات والمزايدات ويكتفون ببيانات رفع العتب؟