لعلعت “زلغوطة” خارجة عن إرادتي وأنا أشاهد على الهواء مباشرة آثار الدمار الذي تركه العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان وسط دهشة كل من حولي، وعندما سئلت عن ذلك كان جوابي: كيف لا أفرح إذا كنا نحن منتصرين، وهذه حالنا، فكيف هي إذن حال العدو المنهزم؟
قد لا تنتهي حكايات اللبنانيين مع الحروب والانتصارات الوهمية، فهم من أكثر شعوب المنطقة معاناة، سواء كان ذلك خلال الحرب الأهلية في العام ١٩٧٥ أو عند الاجتياح الإسرائيلي في العام ١٩٨٢ أو خلال حربَيّ التحرير والإلغاء ١٩٨٩ و١٩٩٠ أو في تموز ٢٠٠٦ و غزوة بيروت والجبل في العام ٢٠٠٨ . ناهيك بأزمات اقتصادية وانهيار في العملة الوطنية وأخيرًا -عسى أن تكون آخرًا- الحرب الإسرائيلية على حزب الله.
ولكن، ولله الحمد، خرجنا هذه المرة، كما في كل مرة غانمين منصورين، فلا يهم عدد الضحايا و لا بكاء الأرامل ولا حرقة الثكالى ولا أنين الجرحى ولا الدمار ولا التشرّد ولا التشتّت ولا الخروقات ولا التحذيرات ولا الإذعان ولا الذلّ ولا الرضوخ للعدوّ.
في الواقع إنّ الوهم الكبير بالانتصار قد بدأ قبل بدء الحرب الأخيرة، وذلك من خلال التطمينات من أن العدو لن يتجرأ على الدخول في الحرب لأنه “أوهن من بيت العنكبوت” وفي حال تجرأ “فيا هلا ومرحب”… ومن ثمّ، وقعت الحرب واستمرّ ادعاء النصر المستند الى عبارات من نوع “صفّارات الإنذار تدوي في المدن الإسرائيلية، وآلاف الإسرائيليين يهرعون إلى الملاجئ وحالة من الذُعر تخيّم على المدن الإسرائيلية…”، وكأنّ دوي صفارات الإنذار ونُزول الإسرائيليين إلى الملاجئ لبضعة ساعات يستحقّ أن يفقد آلاف اللبنانيين حياتهم من أجله ويجرح عشرات الآلاف وينزح مئات الآلاف وتدمر الممتلكات الخاصة والعامة ويحترق جنى العمر ومأوى الذكريات!
في علم النفس المنهزم غالبًا ما يتوهّم الانتصارات ويتلذذ ويتسلّى بها حين تُسَدّ في وجهه جميع السبل
هذا تحديدًا ما حدث خلال شهرين متتالين، وما كنا شاهدناه جميعًا على الهواء مباشرةً، وما تناقلته وسائل الإعلام التابعة لمحور الممانعة، وما يتم تصويره اليوم كانتصار لحزب الله على إسرائيل، هو بالضبط ما اعتاد الإعلام التابع لهذا المحور وسياسيوه وناشطوه على مواقع التواصل الاجتماعي ترويجه بعد كلّ حرب طوال السنوات الماضية.
قد يكون الهدف ممن يدّعون الانتصار هو التوهّم ببقاء الأوضاع كما كانت عليها قبل اندلاع الحرب، فادّعاء النصر هذا، قد يُساعد حتمًا في إنكار الاعتراف بما آلت إليه حال “حزب الله”.
في علم النفس المنهزم غالبًا ما يتوهّم الانتصارات ويتلذذ ويتسلّى بها حين تُسَدّ في وجهه جميع السبل، فالضابط على سبيل المثال، حين ينهزم في الميدان يقول لجنوده انتصرنا طالما لم يتم القضاء عليهم جميعًا، وذلك بهدف منع تسلّل الإحباط إلى نفوسهم.
من المؤكّد أنّ ما حدث في الحرب الأخيرة ليس انتصارًا إنما استعارة للانتصار، والإنسان غالبًا ما يستعير من الآخرين ما ينقصه لسدّ ما لا يملكه، فيعيش الملكية ويتماهى معها ويصدّقها.
آن الأوان لإيجاد حلول واقعية بدل الاستمرار في حالات الإنكار وادعاء النصر بعد كل هزيمة
ولكن هل من المجدي استعارة الانتصار ولو من باب الزّيف؟ وهل السبب هو عدم قدرة المرء على العيش مع الشّعور بالهزيمة؟
من حق الإنسان أن تكون له استعاراته الوجوديّة حتّى ينجو من واقع قد يكون فرض عليه، إذ يستخدمها كمخدّر ليتجاوز من خلالها خيباته وآلامه حتى لو كان عن طريق المراوغة النفسية، وإلا تحوّلت هذه اللحظات العابرة إلى شعور مستمر بالفشل وتحوّلت الذات من باحثة عن وسائل علاجية إلى سقيمة على الدوام، لكن هذا في الخيبات الحياتية اليومية، أما في الحروب، فلا يمكن للشخص المنهزم أن يبرأ من هذا الشعور بل يبقى يقضّ مضجعه حتى يعاود الانتصار على خصمه، بالمقابل يعيش الطرف المنتصر نشوة الانتصار البكر حتّى وإن هزمه ذلك الشخص لاحقاً، إذ يبقى يذكّر نفسه ويمنّيها بتلك الحادثة.
هذا على أمل أن نتذوّق ولو مرّة واحدة نحن جيل الحروب المتعاقبة طعم النصر الحقيقي وأن يتذوّقه أبناؤنا من بعدنا، بعيدًا عن زيف وادعاء مجموعات تتحكّم برقابنا وتدّعي أن استهداف أرواح المدنيين وأرزاقهم أعمالًا بطوليّة علّها تضمن تبعيتها وتستعيد هيبتها المندثرة تحت سابع أرض، لأنه آن الأوان لإيجاد حلول واقعية بدل الاستمرار في حالات الإنكار وادعاء النصر بعد كل هزيمة.