"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

تكويعة..

نيوزاليست
الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024

تكويعة..

سهيل كيوان

اجترح السّوريون عبارة “التكويع”، وجعلوا لها تصريفات، كوّع يكوّع تكويعاً، والكَوَع كلمة فصيحة تعني بحسب معجم اللغة “التحوّل الحاد”، والكَوَع عَطفة، أو ثَنية في رسغ اليد، ويقال رجلٌ أكوَع وامرأة كوعاء، ويستعمل الكوع في شبكة أنابيب المياه لتغيير اتجاه الأنبوب.

اشتهر “الكوع” في قطاع غزة خلال الانتفاضة الثانية عام 2000 كقنبلة فقراء، حيث يؤخذ كوع مواسير، ويُملأ بمادّة البارود ويغلق من طرفيه المسنّنين، مع إبقاء ثقب للفتيل، يُشعَلُ الفتيل، ثم يُرمى الكوع إلى الهدف حيث ينفجر، كان ثمنه يعادل أقل من دولارين.

طفا التعبير بعد تحرير سوريا، وهروب رئيس النّظام، والانعطافة الحادة لمؤيّدي نظام الطاغية، من مؤيّدين ومدافعين متحمسين عن النظام، إلى مؤيّدين للثّورة، ومهاجمين لوحشية النظام.

كوّعَ أو أكعى كثيرون، وهنالك من كان تكويعه حادّا جدًا إلى درجة مبتذلة، فبدا كأنّما يسعى إلى القفز للركوب في آخر عربات القطار، فسقط على السّكة وكَسرَ كوعه.

بعض هؤلاء يثير ابتسامة هادئة في طريقة صياغته للتكويعة، ومنهم من تشعر بالشّفقة عليه، لأنّه أدخل نفسه في موقف محرج جداً، خصوصاً إذا كان من أولئك المطبّلين للنظام، وكان يتنّمر على الفنانين والمثقفين والمواطنين السّوريين المعارضين، ويخاطبهم بفوقية واستقواء، وينعتهم بشتى النُّعوت القبيحة، أقلها أنهم يخدمون أجندات أجنبية، وتلقي أموال من جهات مشبوهة، وبالتالي خيانة سورية.

من بين هؤلاء، من كان ينعت معارضي النّظام بالطائفية والداعشية والتعصب المذهبي، واضطهاد المرأة، والعداء للفنون وللرَّكب الحضاري. ومن هؤلاء من رفع يده لضرب محاور معارضٍ للنظام في خلال حلقة تلفزيونية، طبعاً خارج سوريا، أو سكب على المعارض كوب ماء، أو ألقى عليه دفتراً وشتمه وحقّره، لشعوره بأنّه في موقع القوّة، وكي يحظى برضى مسؤولي ومديري النّظام الذين يقرّرون في كلِّ صغيرة وكبيرة في سوريّا.

مرّ ملايين السّوريين في حالة من اليأس، ومعهم ملايين العرب، وظنّ كثيرون أن النّظام أو الأنظمة العربية عموماً، انتصرت على إرادة الشعوب بأموالها وسلاحها ومخابراتها ومؤامراتها، وأنّ الرّبيع العربي، قضى نحبه وحُسم أمره، بل أنه ترك مرارة التجربة لدى كثيرين أدت إلى تشكيكهم بصحّة موقفهم أو بجدواه، وانتشرت عبارة “ما يسمى” في وصف الرّبيع العربي، وذلك تشكيكا بأنّه لم يكن ربيعا عربيا بالفعل، بل من صنع دوائر المخابرات العالمية، وتراجع كثيرون عن قناعاتهم، وتكوّعوا لصالح النّظام بغير قناعة، وصاروا يستعملون عبارة “ما يسمّى” الربيع العربي تبخيسا لمحاولة الشعوب العربية التحرّر من عبودية أنظمة الاستبداد.

نجحت الثورة المضادة في التشكيك بنظافة الرّبيع العربي، وبحقيقة مشاعر غضب عشرات الملايين ونزولهم إلى الشوارع والميادين، وتفننت أذرع النظام في تخوين وتحقير المتظاهرين، بحيث زعموا مرّة أن الرشوة كانت ساندويشة فلافل وعشرة دولارات للتظاهر ضد النظام.

تبنّى كثيرون مواقف النظام وردّدوها بغير قناعة، ونتيجة يأس من إمكانية التغيير، بعدما دعمت قوى إقليمية ودولية النّظام بقوة مباشرة وغير مباشرة.

أكثر الناس في أوطاننا العربية مع”الحيط الواقف”، فهم مع القوي أو المنتصر، لإدراكهم بأن المهزوم لا يستطيع أن ينفعهم حتى ولو كان معه كل الحق، بينما المنتصر ينفع، ويستطيع أن يضرّهم. كذلك لقناعتهم بأن المنتصر لا يرحم معارضيه، لغياب مفهوم الديمقراطية وحرية التعبير.

بعض الناس يتريثون حتى تنجلي المواقف، ويميلون مع الكفّة الرّاجحة.

عندما يفقد الناس الأمل بالجميع، يتصرّفون بغريزتهم بما تمليه عليهم مصلحتهم وبقائهم قيد الحياة، حتى لو كان ضد قناعتهم، فليس لدى جميعهم جهوزية دفع ثمن الاعتراض على واقع ما، أو البوح بحقيقة ما يشعرون ويضمرون، وخصوصا إذا كان الثمن باهظاً في الرّوح أو العرض والأملاك. النظام في سوريا كان ينتهك كل شيء، المال والأرواح والأعراض، ولهذا كانت “محبة” أكثرية الناس له نفاقا وكذبا، ورأينا فنونا من النفاق في هتافات أعضاء مجلس الشّعب، أحدهم طالبه بقيادة العالم وليس سوريا فقط، ورجل دين اعتبره عبقرية نادرة لا يجود الزمان بمثلها فقد جمع بين فن القيادة والدين والتواضع والفكر والأدب والعلوم والأخلاق. وفرقة تواشيح دينية أنشدت لوجه بشار “ضوء القمر وزين الرجال من البشر”. “حاز المفاخر كلها

إنه بشّار ضوء القمر، تمضي السنون ومجده، يزداد لا يخشى القِصَر”.

سيكون هؤلاء أوّل المكوعين، وقد تراهم يرقصون في الميادين.

من بين المكوّعين، كثيرون من الفنانين والمثقفين المعارضين، الذين تعبوا رغم معرفتهم للحقيقة. ولكن كي يبرّروا مواقفهم الخاطئة صاروا يقارنون بين ما كان قبل الثورة، وما جرى بعدها، قارنوا بين الأسعار وقيمة الليرة السُّورية قبل وبعد، محمّلين كل العالم مسؤولية ما حدث، وبرأوا النّظام الذي أعلن “الأسد أو نحرق البلد” والتمسوا له الأعذار، وبأنه يتعرّض إلى مؤامرة.

كثيرون صاروا يصرّحون أنّ الأنظمة العربية التي كانت قبل الربيع العربي أفضل مما أفرزه هذا الربيع! متجاهلين أن سبب الكوارث في الأصل هي تلك الأنظمة.

طبيعي جدا، إذا خيّرت إنسانا بين أن يُذبح أو يحرق، وبين أن يعيش في فقر مدقع، فإنّه يختار الفقر المدقع ويعتبره سعادة، وإذا خيّرته بين أن يتشرد من بيته الدافئ، إلى خيمة في الشّمال السّوري البارد، أو في شوارع المدن الغريبة، فإنه يفضل أن يبقى تحت ظل نظام فاسد على أن يتشرّد، وخصوصا بعد أن وصلت قصص مشرّدين تجمدوا حتى الموت في غابات أوروبا، أو اختنقوا في شاحنات على طريقة “رجال في الشّمس”، إضافة إلى التحريض عليهم من قبل النازيين الجدد وغيرهم ومهاجمتهم.

حملة التشكيك مُركّبة، بعضها ما زال مستمرّاً، اشترك فيها يساريون وقوميون وأناس عُرفوا في إخلاصهم، خاصة من خارج سوريا، من أولئك الذين لم يتخيّلوا كيف سحق النظام معارضيه.

بعد تحرير المعتقلين وما كُشف من إجرام ومجازر أدمت القلوب، ذُهل داعمو النظام، وخشوا من غضبة الشّعب، فجاءت ردود التكويع حادة، ونظراً لغياب حرّية التّعبير على مدار عقود، فإنّ الخوف كان وما زال مسيطراً، وما زالت تأثيرات إرهاب النّظام متجذّرة.

بعضهم أكعى بمئة وثمانين درجة، والبعض بزاوية منفرجة أو قائمة أو حادّة، بعضها محسوبٌ بذكاء، بحيث لا يبدو منافقا أو جباناً بصورة فاضحة، فأكعى بمرونة، وامتدح أخلاق الثّوار الذين عاملوه بلطف، واعترف بأنّه كان يخاف من النّظام، وأنّه نافق للنظام نتيجة للخوف، وتظاهر بعضهم بأنّه لا يعرف كوعَه من بوعِه.

الشّعب يلتمس الأعذار لهؤلاء ويتفهّمهم، فهم إخوانه وأهله وأبناؤه، ويتفهّم كل أنواع التكويعات، طالما أنّ الأيدي لم تتلطّخ بدماء وأعراض وأملاك الناس.

أما الذين قادوا وقتلوا وسجنوا وعذّبوا ومارسوا ساديتهم وقذارتهم وخساستهم على الرجال والنساء والأطفال، فهؤلاء لا رحمة لهم، ويجب أن يكونوا عبرة للأجيال من الحكّام والقادة القادمين من بعدهم، بأنّ الشُّعوب لا تنسى ولن تغفر لأمثالهم، وسوف يتلقون عقابهم الشّديد ولو بعد حين.

القدس العربي

المقال السابق
خطوة جديدة لمتابعة ملف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية
نيوزاليست

نيوزاليست

مقالات ذات صلة

بعد نحو 12 عاماً… أنا في سوريا

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية