“قررت أن أكون سعيدًا لأحافظ على صحتي”، هذا القول الذي ينسب إلى الفيلسوف الفرنسي فولتير، لإعطائه ربما بعضًا من المصداقية والاحترام، بات ضرورة ملّحة لا غنى عنه في مجال التطوير الشخصي، إذ من النادر إعطاء وصفة طبيّة من قبل طبيب نفسي من دون أن تترافق مع نصيحة منه بإجراء دورة تدريبية على الضحك.
وقد انتهز علم النفس الإيجابي هذا الموضوع وسعى إلى الإضاءة عليه من خلال العديد من الأبحاث التي حاولت تحديد العلاقة بين السعادة والتعاسة وتأثيرهما على الصحّة. ففي دراسة نُشرت في مجلة European Heart Journalأجريت على ١٧٠٠ شخص في اسكتلندا، أظهرت أن المشاركين الأكثر تفاؤلًا تعرّضوا لمشاكل أقل في أمراض القلب والأوعية الدموية على مدى عشر سنوات من زملائهم ذوي النظرة التشاؤمية، وربطت الدراسة ذلك بالثراء المادي حيث اعتبرت أنّ الأشخاص المرتاحين ماديًا، يميلون إلى اتباع نظام غذائي متوازن وذات جودة عالية، ويستهلكون كميات أقل من الكحول والتبغ، ويهتمون بصحتهم بشكل كبير من خلال استشارة كبار الاختصاصيين في مجال الطب واتباع علاجات مكلفة.
أيهما يعزّز الصحة، السعادة أو المال؟
تجربة الراهبات الشهيرة
للإجابة على هذه الفرضية أجرى البروفيسور ديفيد سنودن David Snowdonوزملاؤه في قسم الطب الوقائي في جامعة Kentuckyفي الولايات المتحدة الأميركية، ما أطلقوا عليه اسم “التحدّي”، على مجموعة من الراهبات يعيشون في دير في كنتاكي.
أما لماذا الراهبات؟
لأنهن، كما يقول David Snowdon “يتشاركن ظروف الحياة ذاتها سواء على مستوى التغذية والنشاط البدني، أو مستوى الضغط النفسي وكل ما يؤثر بشكل ملموس على الصحة.
وقام Snowdonوفريقه بتحليل خطابات التحفيز لـ ١٨٠ امرأة شابة (يبلغ متوسط عمرهن٢٢ عامًا) أردن الانتساب إلى سلك الرهبنة، حيث أعْطَين اهتمامًا خاصًا للمفردات العاطفية التي استعملنها في خطاباتهن لمعرفة مدى حماستهن لـ “تكريس حياتهنّ لله”، على سبيل المثال عبارة “أشعر بفرح هائل عندما أفكر بالانضمام إلى الدير” تدل على حماس أكبر من عبارة “لقد علمت دائمًا أنني سأكرس حياتي للرب”.
وقام الباحثون على مدى أكثر من نصف قرن من متابعة هؤلاء الراهبات في يومياتهن، فجمعوا بيانات تتعلّق بصحتهّن وعمرهن عند الوفاة، فتبيّن أنّ الراهبات اللواتي كنّ أكثر تفاؤلًا (استنادًا إلى المشاعر المعبّر عنها في رسائلهن) تمتعن بصحة أفضل، وعشن لفترة أطول.
واحتلت نتائج “دراسة الراهبات” الصحف والمجلات حيث أفردت لها مساحات مهمة بعناوين صاخبة على غرار: “كن سعيدًا وتمتّع بصحّة جيّدة وأضف سبع سنوات إلى عمرك الافتراضي”!
من المؤكد أن فولتير كان ليفرح بتلك النتيجة “الرائعة”، لكن هذا الاستنتاج، الذي يبدو متفائلاً لم يُزِل شكوك تيّارات أخرى في علم النفس، حيث طرحت العديد من الأسئلة مثل: “هل يمكن أن تكون متغيرات أخرى غير السعادة مسؤولة عن هذا التأثير الإيجابي على صحة الراهبات؟”، و”لماذا لا يكون الإيمان لدى الراهبات وما يولدّه عادة من فرح ورضا، هو المسؤول عن تمتّعهن بالصحة الجيّدة”؟
وبناءً على هذه الأسئلة، جاءت الدراسة البريطانية الشهيرة التي أُجريت على أكثر من مليون امرأة تم تجنيدهن بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٠١ وقد أطلق عليها اسم “دراسة المليون امرأة”، حيث تمت متابعة حالاتهنّ الصحية بشكل إلكتروني كما قاموا باستخدام استبيانات تهدف إلى قياس بعض المتغيرات لديهن مثل السعادة والكآبة وقدرتهن على السيطرة على تجاربهن، ومستوى التوتر لديهن.
وجاء صدى الدراسة مختلفًا تمامًا هذه المرة حيث عنونت الصحافة: “إذا كان المرض يجعل الإنسان تعيسًا، فإنّ الحزن لا يجعله مريضًا”.
وخارج هذه الصيغة المختصرة، أظهرت دراسة أعدّتها Bette Liu أستاذة في كلية الطب في جامعة نيو ساوث ويلز في سيدني، أن الحزن بحدّ ذاته لا يؤثر على عمر الإنسان ولا على صحته، فبعد تحليل بيانات ما يقارب ٧٢٠ ألف مشتركة يبلغ متوسط عمرهنّ ٥٩ عامًا وتم متابعتهن لمدة عشر سنوات، أظهرت النتائج أن قلّة السعادة مرتبطة بالفقر والعزلة والجلوس لفترة طويلة والتدخين والتي هي عوامل من المعروف بأنها تؤثر سلبًا على صحة الإنسان.
قد تعطي دراسة Liu بعضًا من الطمأنينة لتعساء هذه الأرض بأنّ معاناتهم لن تجلب لهم الأمراض القاتلة، كما قد توجّه ضربة قاضية لمؤيدي الفكر الإيجابي الذين يقنعون مرضاهم بأنّ المزاج الجيّد سيمنحهم العمر المديد.
هذا ويبقى الثابت الوحيد الذي يسهم في تحسين صحّة الإنسان النفسية والبدنية وزيادة سنوات عمره، هو ممارسة الرياضة وتناول أغذية صحية والنوم لساعات كافية ليلا والتمتّع بعلاقات اجتماعية وثيقة ومترابطة، وبالإذن من عمر الخيام إذا عدّلنا بقوله ليصبح: لا أطالت السعادة عمرًا ولا قصّرت بالأعمار كثرة المآسي.