لم تكن “المارونية السياسية” خيار المسيحيين الموارنة، بل كانت نعتاً لهم من خصومهم الذين تقاطعوا حينها في “الحركة الوطنية اللبنانية”. الأخيرة سوقت المصطلح المذكور في القاموس السياسي اللبناني كفعل إدانة لاستئثار الموارنة بالسلطة.
بافتراض أرجحية التعبير، تلاشت المارونية السياسية مع اتفاق الطائف عام 1990، وعلى أنقاضها عرف اللبنانيون مذهبيتين سياسيتين استأثرتا بالسلطة تباعاً. السنية السياسية التي آلت إلى الوهن بعد اغتيال رفيق الحريري، ثم الشيعية السياسية المباشِرة لتكوينها أصلاً مع “حركة أمل” كشريك مضارب مع السنية السياسية، ولاحقاً في اكتمالها بعد عام 2005 مع مباشرة “حزب الله” سلطويته.
إخضاع أي مذهبية سياسية للنقد اقتصادياً واجتماعياً، سيفضي بالضرورة إلى معيار أن لها ما لها، وعليها ما عليها. هذه حال المذهبيتين المارونية والسنية، لكنه معيار يتبدد على الأرجح مع الشيعية السياسية، مع تحلل الدولة واقتصادها.
تقدم الشيعية السياسية نمطاً مبتذلاً عن سابقتيها، وتحديداً عن المارونية التي قدمت نموذجاً عن التفوق الاقتصادي والثقافي في ظل استئثارها السياسي، وهو تفوق تتقاطع معه الشيعية السياسية في المعنى لتفترق عنه في المبنى. الأخير تحتشد فيه المرادفات التي يفضي إليها التفوق العسكري فقط. هنا تحضر العزة والكرامة التي كان أول بوادرها إطلاق رئيس “حركة أمل” على منطقة “حي السلم” اسم “حي الكرامة” بعد انتفاضة السادس من شباط/ فبراير 1984. الحي بالمناسبة لا يزال أحد أكثر الأحياء الشيعية بؤساً.
ظلت علّة المارونية السياسية في عدم تسييلها التفوق الاقتصادي مناطقياً. انحسار الأخير في بيروت وجبل لبنان أفسح المجال لنشوء هوة عميقة في الواقع الاجتماعي بين المركز ومناطق لبنانية أخرى.
لم يستغرق موسى الصدر كثيراً في المظلومية الشيعية عبر تاريخها البعيد. هذه ستصير لاحقاً ضالة مشروع “حزب الله” في جذب الشيعة وانقلابهم على إرث الصدر، وبتقاطع مع وريثه نبيه بري الذي كثف خطاب الصدر عن الحرمان في الوجدان الشيعي ليسيله لاحقاً كشراكة مضارِبة في استئثار السلطة مع “الحريرية السياسية”.
باشرت الشيعية السياسية مع رئيس “حركة أمل” نبيه بري خطاباً وضع الشيعة في نمطية اجتماعية بائسة. راهناً استعادت هذه النمطية نجاعتها في خطابات أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، وفي تكثيف مقصود لقلق الشيعي من ماضيه.
الموضوعية تفترض ملامسة واقعية البؤس الشيعي في زمن “المارونية السياسية”، لكن تنميط الشيعة في ظل الأخيرة كماسحي أحذية و”عتالين” وعمال على “البور”، ثم تعميم هذه النمطية في الوجدان الشيعي، أفضيا إلى نقمتين اثنتين.
نقمة سياسية تعبر عن نفسها راهناً بأسوأ من سابقتها، والأهم نقمة ريفية على المدينة بوصفها المكان المؤسس لبؤس الأطراف، كما لأحزمة البؤس حولها. وأغلب الظن أن الاعتصام الشهير في وسط بيروت عام 2008، بذريعة إسقاط حكومة فؤاد السنيورة، وشى حينها بما هو أكثر من السياسة وخصوماتها. كنا على الأرجح أمام نقمة مزدوجة شيعية ومسيحية.
استحضر الجمهور الشيعي حينها تلك الريفية المكبوتة، وتكفل الجمهور العوني أيضاً بالانتقام من “الحريرية” بوصفها وريثاً للتفوق الاقتصادي لدى المسيحيين.
انطوت المذهبيتان السياسيتان المارونية والسنية، وانطوى معهما مشروعين اقتصاديين احتملا صوابية الاختلاف على مآلهما كنموذجين عن اختلال العدالة الاجتماعية حيناً، وعن الكلفة التي أثقلت كاهل اللبنانيين كمديونية مؤجلة حيناً آخر.
تطلّب المشروعان السابقان مناخاً سلمياً ومتحرراً من مشقة الصراع العربي- الإسرائيلي. كان هذا الحال مع المارونية السياسية في شطر كبير من سياقها قبل تشريع العمل العسكري الفلسطيني. مع رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري كان الرهان على عجلة السلام في مؤتمر مدريد المتزامن مع دخوله إلى السلطة.
كانت الحروب أكثر العوامل تأثيراً في تلاشي ما راكمته المارونية السياسية عن تفوقها الاقتصادي، وكانت أيضاً مؤشراً عن اعتلال المواءمة بينها وبين المشروع الاقتصادي لرفيق الحريري. والوصاية السورية تكفلت بتسويغ قسرية هذه المواءمة بين الحرب والاقتصاد.
لم تحمل الشيعية السياسية مشروعاً اقتصادياً كسابقتيها، “حركة أمل” بدت شريكاً مضارباً على ضفافه، من خلال خدمات تربوية وصحية وإنمائية عامة، لكنها احتملت أيضاً كمّاً موصوفاً من الهدر الذي استفاد منه متعهدون شيعة، كانوا غالباً على تماس مع رئيسها. أفضت هذه الشراكة أيضاً إلى إتخام الإدارات العامة والأمنية الرسمية بجيش من الموظفين، مثلوا على الأرجح ردة على تلك النقمة التي أسست لها الحركة في استقطابها الوعي الشيعي.
اختلف هذا الواقع مع “حزب الله”، الذي وجد في “عسكرة” الطائفة المناعة الوحيدة لقوتها ولسطوتها، باشر هذه المناعة بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. مقاومة ظلت تكتسب مشروعية سياسية وشعبية، طوعية أو قسرية، قبل أن تصنع لاحقاً انشطاراً مذهبياً حولها بفعل أدوارها الإقليمية، وبفعل سطوة سلاحها على المناخ السياسي العام.
لم يقدم “حزب الله” مشروعاً اقتصادياً للبنان. يعرف الحزب أن مشروعاً كهذا يناقض مشروعه الأساسي، كما اقتصاده الموازي.
يُكثر الحزب من خطاباته النقدية للسياسات الاقتصادية، وهو نادراً ما منحها ثقته. لكنه أيضاً لم يخرج عن الإطار النظري لإشكالياتها وحلولها. وكنموذج عن هذا التنظير كان نائب أمينه العام نعيم قاسم يكثف في الفترة الأخيرة رؤية نظرية سيقت بلا مضمون، “لدى حزب الله خطة اقتصادية متكاملة”،كما قال قاسم.
خطة قاسم لن تعدو كونها سياقاً آخر من سياقات التنظير الاقتصادي لمسؤولي الحزب، والتي تندرج كتجفيف لغضب البيئة الشيعية على المآل الاقتصادي الراهن. أما بالنسبة إلى الحلول، فيكفي أن يستمع المرء إلى خطابات السيد حسن نصرالله ليدرك موقع الاقتصاد من المشروع العسكري لـ”حزب الله”.
راهناً، وفي لح ظة انهيارهم المديد، يتبدى للبنانيين أثر الإقفال السياسي الذي تفرضه الشيعية السياسية على مستقبلهم الاقتصادي، عبر محاولتها فرض عليهم رئيس للجمهورية تخلو سيرته الذاتية من أي أفق اقتصادي. يريد “حزب الله” رئيساً يحمي ظهره فقط، لا ظهر فقراء لبنان، والشيعة في صلبهم.
درج