لو حسنت النيات لكان “التخابط الطائفي” الذي أثارته إعادة نشر مقتطف من خطاب ألقته النائبة في كتلة القوات اللبنانية غادة أيوب، بمناسبة خروج رئيس حزبها سمير جعجع من السجن، قد انتهى. كان يكفي التدقيق بالمبرر الذي قدمته لخلفيات كلامها عن 1400 سنة من النضال المستمر للموارنة في لبنان، لمعرفة ما إذا كانت صادقة أم لا، وما إذا كانت تستهدف الرسالة النبوية أم الظروف التي نتجت عنها مطاردة تلامذة القديس مارون ولجوءهم الى جبال لبنان، حيث أسسوا، مع البطريرك مار يوحنا مارون كنيستهم المستقلة.
في زمن “غوغل” وأشقائه، والذكاء الإصطناعي ومتفرعاته، لم يعد التدقيق بحاجة الى عباقرة، بل الى راغبين بمعرفة الحقيقة. وبمراجعة بسيطة للتاريخ، من خلال هذه الوسائط المتوافرة للجميع، يتبيّن إن مار يوحنا مارون لجأ الى لبنان، بالفعل في آخر القرن السابع بعد الميلاد، أي “قبل أكثر من 1400 سنة”، وفق ما قالته حرفيا النائبة أيوب، وأنّ سبب ذلك يعود الى هجوم كان قد شنّه الأمبراطور البيزنطي جسانيان الثاني على “المردة”، بعدما تعاظمت سلطتهم.
والتعمق في التدقيق، يعين الباحثين عن الحقيقة وليس الساعين الى الفتنة، على أن يكتشفوا أنّ أوّل مضطهدي الموارنة، قبل 1400 سنة، هم تحديدًا من حاربهم المسلمون عندما فتحوا بلاد الشام.
كان يمكن لهذا التدقيق أن يُنهي الموضوع ولكن رغبة الإصطياد في الماء العكر أعظم من الحقيقة في لبنان، فهناك أطراف إسلامية تريد أن تسوّق نفسها على أنّها تحمي كرامة دينها، وهناك أطراف ميليشياوية تريد أن تبرر حمل السلاح في الداخل في محاولة مستمرة لإيهام ناسها بأنها المانع الأساسي لما يسمّى بـ”المارونية السياسية” من العودة الى الواجهة، وهناك أطراف حزبية، ضمن طائفة أيوب نفسها، تريد أن تستعيد، بالتحريض، ما خسرته من مقاعد في الانتخابات النيابية، وهناك متحمسون من كل حدب وصوب يريدون أن يظهروا، من خلال الركب على موجات الإثارة، أنّهم مؤثرون!
وهؤلاء مثلهم مثل من يستسهل الدخول في حملة دعائية تستهدف شخصيات عالمية بأخبار واضحة التزييف، كاستسهال “الجزم” بأنّ مجلة فرنسية صوّرت الرئيس ايمانويل ماكرون وهو “يجامع” رجالًا، وأنّ زوجته التي لها أولاد من زواجها الأول، هي متحوّلة جنسيًّا.
ولم يكن ينقض هذا الجو اللبناني الموبوء، سوى دخول بهاء الحريري، الباحث عبر ثروته الموروثة، عن زاوية له في هذا الحطام، على الخط، ليدلي بتصريح “كارثي”، بحيث اعتبر أنّ المسلمين، قبل 1400 سنة، لو لم يكونوا أهل اعتدال، وفي ظل عدم وجود “إنستغرام” و”تيك توك”، ل”كان يمكننا أن نذبّح باليهود والشيعة والدروز والمسيحيين. لكننا لم نفعل ذلك، لأننا نحن الإعتدال”، وفق ما قاله حرفيًّا في مقابلة مع قناة تلفزيونية إماراتية تعتمد أسلوب الإثارة.
بطبيعة الحال، عندما بدأ النبي العربي رسالته، لم يكن هناك لا شيعة ولا دروز، ليجري “تذبيحهم”، كما أنّ هؤلاء، هم بالنتيجة مسلمون. أضف الى ذلك أنّ كل المجازر التي ارتكبت في التاريخ، لم تكن بحاجة لتضبح معروفة، لا إلى “أنستغرام” ولا إلى “تيك توك”، إلّا إذا كان بهاء الحريري لم يسمع مطلقًا بالكتب والمخطوطات والمؤرخين، في مراحل زمنية سابقة، ولا حتى بالصحف والإذاعات والتلفزيونات، في مراحل لاحقة!
إنّ البحث في المواقف التي أطلقتها الأطراف اللبنانية، على مدى سنوات، وبغض النظر عن مقاصد النائب غادة أيوب الحقيقية من كلمتها الأخيرة، فيها الكثير من التحريض على الطوائف الأخرى. يكفي أن نعود قليلًا الى الوراء، ونركز على عقيدة “حزب الله” التي بكّر أمينه العام الحالي حسن نصرالله في تحديدها، بحيث يعتبر الموارنة في جبيل وكسروان غزاة وأنّ المسيحيين ليسوا سوى شوكة زرعتها الأمبراطورية البيزنطية في خاصرة المسلمين.
وفي مطلق الأحوال، حبذا لو يترك السياسيون التاريخ لأهله، ويصبوا همومهم على معالجة الحاضر، فالعاجز عن حل مشاكل اليوم ليس مخوّلًا أن يكون عالمًا في إشكاليّات التاريخ، سواء حسنت نياته أو ساءت!