يدرك جان إيف لوردريان أنّه لولا قوى المعارضة لما كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قد كلّفه الإهتمام، كممثّل شخصيّ له، بملف لبنان، لأنّ هذه القوى، بمواقفها واتصالاتها وتقاطعاتها، هي التي أفشلت الخليّة الدبلوماسيّة في قصر الإليزيه، وحالت دون تمكينها من فرض “معادلتها الرئاسية”، وهي التي كوّنت العاصفة التي هبّت في لبنان وفرنسا، ضد النهج الذي حاولت الرئاسة الفرنسية اعتماده في التعاطي مع اللبنانيين.
وهذا يعني أنّ لودريان، بما يملكه من خبرة وحنكة ومعرفة، يدرك أنّ عليه القفز نهائيًّا فوق الطرح الذي كان يعتمد على “ترئيس” رئيس “تيّار المردة”سليمان فرنجية للجمهورية اللبنانية، والذهاب الى خيار جديد يكسر عناد “الثنائي الشيعي” الذي يريد أن يفرض على الجميع “مرشّحه الوحيد”.
ولكنّ دون مهمّة لودريان هذه عوائق عدّة، ف”حزب الله”، حتى تاريخه، يرفض التخلّي عن فرنجيّة، وهو يهوّل، دفاعًا عن مكتسباته في صناعة القرار اللبنانيّ، ب”فراغ طويل”، مدعومًا في ذلك من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي اللذين قرّرا، بعد جلسة 14 حزيران( يونيو) الأخير، التي فشلت في انتخاب رئيس للجمهوريّة وبيّنت انقسامًا كبيرًا في الخيارات الرئاسيّة، ملء الفراغ الطويل، من خلال تفعيل المؤسستين الدستوريتين، من دون إعارة أيّ اعتبار لعدم وجود رئيس للدولة.
ولا تقتصر مصاعب لودريان على “حزب الله”، بل تتعدّاه الى الإدارة الفرنسيّة التي سبق لها أن قرّرت التعامل بإيجابيّة مع “الثنائي الشيعي” وبالتالي الوقوف على رأيه في أيّ خطوة يمكن أن تتّخذها في التعامل مع لبنان. وهذا لم يتغيّر…بعد!
ولا يستطيع المراقبون، منذ الآن، استشراف تداعيات الإتفاق الذي يُحكى عنه، بجديّة غير مسبوقة، بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة وإيران من جهة آخرى، خصوصًا وأنّ الصيغ المسرّبة للإتفاق المحتمل تقوم على قاعدة “إبقاء الحال على ما هي عليه”، أي أنّ إيران يجب أن تتوقف عن تطوير برنامجها النووي ولكنّه يمكنها أن تُبقي عليه. وهذا يعني أنّ طهران لن تتخلّى، في هذه المرحلة، عن أوراق قوّتها الإقليمية التي يبرز “حزب الله” في مقدّمتها.
وليس سرًّا أنّ “حزب الله” يريد رئيسًا للجمهوريّة بمهمّة استراتيجيّة محدّدة: إبقاء لبنان في خانة العمق الإستراتيجي للجمهورية الإسلامية في إيران، وفق تعبير مرشد هذه الجمهوريّة علي خامنئي.
وحتى تاريخه، لا يجد “حزب الله” من يطمئن إليه لتحقيق هذا الهدف سوى سليمان فرنجيّة كرئيس للجمهوري ّة، أو الفراغ الرئاسي، كحالة مؤسّساتية.
وهذا يعني أنّ إمكان نجاح لودريان في التوصّل، بموجب المعطيات اللبنانية الراهنة، إلى خيار رئاسي جديد، شبه مستحيل.
وفي ظاهر الحال، قرّرت المملكة العربية السعودية “تحييد” نفسها عن الملف الرئاسي اللبناني، أي أنّها قررت عدم إثارة هذا الملف لا مع إيران التي تذهب قدمًا في تطبيع العلاقات معها، ولا مع القوى اللبنانية المتأثّرة بها التي تطالب بدعمها. وجلّ ما أخذه ماكرون من ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان، في هذا الإطار، وعدًا سعوديًّا بدعم المساعي الفرنسيّة وتزخيم النتائج التي يصل إليها حراك لودريان.
ويبدو أنّ الموفد الشخصي للرئيس الفرنسي إلى لبنان يأخذ في الإعتبار كل هذه المعطيات المحليّة والإقليميّة، ولهذا فهو أعطى نفسه مهلة شهر ليعود الى “بلاد الأرز”. إنّ هذه المهلة التي ستتبعها، بطبيعة الحال، مهل أخرى، قد تمتد لما بعد انتهاء موسم الصيف، تتناقض ودعوات الجميع تتقدّمهم الرئاسة الفرنسيّة، إلى ملء الشغور الرئاسي بسرعة، نظرًا لتداعياته الخطرة على كل المستويات بدءًا بالثاني من تموز (يوليو) المقبل تاريخ انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وبذلك، تقع مهمّة لودريان في “الفخ” الذي سبق أن وقعت فيه “المبادرة الفر نسية” التي أطلقها ماكرون من لبنان، إثر انفجار مرفأ بيروت، بحيث يخفّف الحراك الفرنسي الضغط عن الطبقة السياسيّة عمومًا وعن معطّلي انتخابات الرئاسة، خصوصًا، وبالتالي تأخذ هذه القوى ما تحتاج إليه من وقت للإطاحة بأيّ مرشّح يمكن أن يقف في وجه مرشّح “الثنائي الشيعي”، وفق ما بدا أنّه قد حصل مع الوزير السابق جهاد أزعور الذي لم تبدِ بعض القوى الداعمة استعدادًا للتخلّي عنه، فحسب بل بات أيضًا، بفعل التحذيرات الأمنيّة، عاجزًا “مؤقتًا” عن زيارة بلده!
“المبادرة الفرنسية” في العام 2020 عطّلتها إرادة باريس استرضاء “الضاحية الجنوبية”، فتحوّل الإنقاذ الى وبال. الخوف أن ينتهي حراك لودريان الى النتيجة السيئة نفسها!