هذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها لبنان “مرحلة جديدة” تدفعه إلى أن يتطلّع بثقة إلى الغد، ويرفع الآمال العظام ويعد بالأعمال الجسام، ولكنّه، في كل مرة، كان يقع في كمائن الصفقات والتسويات والتدليس والخبث، تحت مسمّى “الواقعية السياسية” ووفق قواعد “أفضل الممكن”، فينقلب التفاؤل إلى تشاؤم وتُهدر الفرص وتتآكل الدولة!
لا شيء يضمن، راهناً، عدم تكرار ما حصل سابقاً، فمكوّنات العودة إلى ما كانت عليه الحال متوافرة بقوة، فالكلام الجميل الذي صدر من هنا وهناك، يبقى مجرد كلام إذا لم يُرفق بآلية تنفيذية واضحة وشفافة قادرة على نقل المرتجى من الورق إلى الواقع!
صحيح أنّ المعطيات الموضوعية تصب في خانة تحقيق الإنجازات على هذا المستوى، ولكنّ الصحيح أكثر أنها ليست المرة الأولى التي يتمسكن فيها “حزب الله” حتى يتمكن، وليس أدل على ذلك سوى تلك الانحناءة الشهيرة، بعد انتصار “ثورة 14 آذار” بكل معطياتها المحلية والإقليمية والدولية، وما عاد وأعقبها، بمجرد توافر الظروف، من انقلاب أمني-عسكري- دموي انتهى إلى انقلاب سياسي-مجتمعي، قاد لبنان، رويداً رويداً، إلى الجحيم المالي-الاقتصادي في خريف العام 2019 ومن ثم إلى جحيم عسكري في خريف العام 2024.
ومن يدقق في خلفيات كلام الناطقين باسم “حزب الله” يمكنه أن يرى، بوضوح، هذا الرهان، إذ إن لسان حال هؤلاء يعلن بلا كلل: “إننا لعائدون”!
بطبيعة الحال، المدخل إلى حصول هذا الانقلاب هو طبيعة الحكومة اللبنانية التي يشكلها الرئيس المكلف نوّاف سلام بإشراف رئيس الجمهورية جوزف عون.
في أحاديث سابقة معه، أعقبت ترشيح المجتمع المدني له، بعد ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ليتولّى رئاسة الحكومة، كان نوّاف سلام يقول للمقربين منه إنّ شرط نجاح أي حكومة في لبنان ليست في شخص رئيس حكومتها، بل في أن تكون بجميع وزرائها على “شاكلة” رئيسها. وكان يردد: “النجاح ليس في أن يأتي نوّاف سلام رئيساً للحكومة، بل في أن يأتي معه 24 نوّاف سلام إلى الوزارات”.
وهذا يعني أنّ نوّاف سلام “المفكر” كان يعتقد أنّ أيّ رئيس حكومة يتمتع بالأهلية الإنجازية يحتاج إلى فريق وزاري كامل يتمتع أفراده بهذه الأهلية حتى ينجح في مهمته، وإلّا فإن الفشل يكمن للبلاد عند كل مفترق طريق!
حالياً، انتقل نوّاف سلام من عالم النظرية إلى حالة الواقع، فهل سيتمكن من تطبيق “وصفة النجاح”؟
يحتاج لبنان إلى حكومة متجانسة تؤمن كما نوّاف سلام بوجوب تطبيق القرارات الدولية وضرورة التزام لبنان بتعهداته وإقامة دولة المواطنية وإرساء جمهورية العدالة، كما بأولوية احترام الدستور، نصاً وروحاً.
وفي ظاهر الحال، وبالاستناد إلى خطاب القسم، يتقاسم سلام ورئيس الجمهورية الأهداف نفسها والتعهدات نفسها، ولكن ما ينقص الإثنين معاً هو وجود حكومة تعمل في الاتجاه نفسه.
ولهذا، فإنّ غالبية المراقبين لا يدققون في طائفية الحقائب بل في نوعية شاغليها، فهل هناك قدرة مثلاً على الإتيان بوزراء يتقاسمون الأهداف والصفات التي يحملها ويتمتع بها الرئيسان عون وسلام؟
ليس المهم لأي طائفة يمكن أن تذهب وزارة المال، ولكن هل يمكن أن يأخذها شيعي يشبه وطنيّاً عون وسلام؟ وكذلك الحال بالنسبة لوزارات الداخلية والدفاع والخارجية والثقافة والأشغال العامة والطاقة وغيرها؟
ليس المهم أن لا يكون الوزير حزبيّاً، في حال كان سوف يأتي إلى منصبه ويحمل على كاهله نير الحزب الذي اقترحه للمنصب، إذ من المؤكد أنّه سوف يكون، والحالة هذه، رجع صدى لمن عيّنه وليس عاملاً مساعداً في تحقيق أهداف الحكومة التي حددها رئيسها!
يعرف الرئيسان عون وسلام أنّهما، في هذه المرحلة، يملكان القدرة على فرض إرادتهما المشتركة على جميع اللاعبين السياسيين في البلاد، وفي مقدمهم “حزب الله”، لأنّهما يتمتعان، في هذا المجال، بدعم داخلي كبير وبزخم إقليمي غير مسبوق، ولديهما أجندة وطنية ضخمة لا يمكن تنفيذ الأساسي منها إلا بعد تأكد جميع المعنيين بها بأنّ وعد إقامة الدولة قد أخذ شكله من طبيعة الحكومة ومكوناتها وبيانها الوزاري الذي يستحيل أن يخرج، إن شاء أن يكون منتجاً وطنيّاً، عن نص وروح اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل.
وعليه، فإنّ الحكم على عون وسلام، بعد الترحيب الحار بنيّاتهما المعلنة، سيبدأ بالتكوّن مع تلاوة مرسوم تشكيل الحكومة. في تلك اللحظة يمكن للجميع أن يعرفوا إن كان لبنان أمام حالة فشل مقنّعة أم أمام قصة نجاح واضحة!
نشرت هذه الإفتتاحية في “النهار”