في ولاية دونالد ترامب الأولى، وكانت الحرب الروسية-الأوكرانية “خامدة”، تلمّس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل غيره، المخاطر التي يمكن أن تعاني منها أوروبا مع إدارات أميركية مماثلة، فرفع يومها لواء إقامة حلف دفاعي أوروبي مستقل عن روسيا والصين والولايات المتحدة الأميركية.
بسبب مبادرته هذه، تعرّض ماكرون في حينه لأكبر حملة انتقادات، سواء داخل بلاده الباحثة عن حل مشكلاتها الاقتصادية أو لدى شركائه الأوروبيين عموماً ولدى الجارة ألمانيا خصوصاً، وهي التي كانت مطمئنة إلى قوة الحماية الأميركية ودفء النفط الروسي في آن واحد.
حالياً، ومع الزخم الذي ينطلق منه دونالد ترامب، في ولايته الثانية، تغيّر كل شيء، في ك ل مكان واجه فيه ماكرون الحملة. هو لم يخض معركة الاستقلالية الدفاعية، بقوة، ولكنّه توجّه إلى واشنطن، حيث حاول، من دون جدوى على ما يبدو، أن يقنع نظيره الأميركي، بوجوب التراجع خطوة إلى الوراء، حفاظاً على المصالح المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. حمل معه إلى البيت الأبيض “كل عدّة الإقناع” وبينها على سبيل المثال لا الحصر، إشكالية مطالبة ترامب دول الاتحاد الأوروبي برفع ميزانيتها الدفاعية في الوقت الذي يتجه فيه إلى تقليص مواردها، من خلال سياسته الضريبية تجاهها، إذ كان يعتزم فرض رسوم على الواردات الأوروبية إلى بلاده، بنسبة 25 بالمئة.
وكالعادة تفاءل ماكرون بالمستحيل، فما إن غادر البيت الأبيض، حتى وجد ترامب يكرّر التزامه بخطة “التصعيد الضرائبي” مهاجماً أوروبا التي “تستغلنا”، فيما اصطفّ في مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى جانب روسيا، ضد أوكرانيا وحلفائها الأوروبيين. وفهم الجميع رسالة ترامب: شهر العسل الذي أمضيتموه طوال ولاية جو بايدن، إنتهى. والآن، عليكم الطاعة أو تحمّل العواقب. فماذا سوف تفعل أوروبا والحالة هذه؟
أوروبا، على الرغم من أنه يجمعها “الاتحاد”، لديها مشاكل بنيوية كثيرة، فبينها دول، كالمجر، مثلاً، تضع نفسها في خدمة التقارب بين ترامب وبو تين. القواسم المشتركة بينها وبينهما أكبر بكثير من تلك التي بينها وبين فرنسا وألمانيا. وكل دولة أوروبية تعاني من انقسامات حادة، حيث أحزاب اليمين “المتطرف” تتحالف مع إدارتي ترامب وبوتين وتتبادل الخدمات. والأهم من كل ذلك، أنّ شعوبها اعتادت، منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، على البحبوحة والرخاء، وبالتالي فحكوماتها ستعاني الأمرّين، شعبياً، وهي تقتطع نسبة كبيرة من مداخيلها لتخصّصها للميزانيات الدفاعية التي ترتفع سنة بعد سنة.
وهذه الحقائق يدركها القادة الفرنسيون والألمان أكثر من غيرهم، ولذلك كثفوا، منذ التحالف الأميركي-الروسي ضدهم في نيويورك، محاولات إقناع الرأي العام بوجوب الاستقلالية الدفاعية.
الزعيم الألماني الجديد فريديريك ميرز، قال، في تصريح غير مسبوق أثار “الدهشة الاستراتيجية” وبيّن واقع الانفصال الذي بدأ يرتسم بحدة بين واشنطن والأوروبيين: “نحن نتكل في الدفاع عن بلادنا على السلاح النووي في كل من فرنسا وبريطانيا”.
رئيس الحكومة الفرنسية فرانسوا بايرو، وفي مقابلة مع صحيفة “لوفيغارو” استعان بالرمز الفرنسي التاريخي، وقال: “كان شارل دو غول على حق حين اعتبر أنّ الدفاع عن فرنسا يكون باستقلالها”. بالنسبة إلى بيرو، انقلبت حال العالم، فبعدما كان يقوم على الشرعية الدولية انتقل إلى مكان آخر، حيث “قانون القوي”. لم يقل أصبح العالم حالياً في شريعة الغاب، ولكن هذا ما قصده تحديداً!
اعتبر بايرو أن أوروبا تواجه ساعة الحقيقة، وتساءل عن “المستقبل الخطر الذي سيخلفه إهمال الإدارة الأميركية لأوكرانيا أمام روسيا، عليها وعلينا”، ولذا رأى أنه لا بد من أن تعمد أوروبا إلى إنشاء “تحالف عسكري مستقل” على غرار “حلف شمال الأطلسي” ولكن من دون الولايات المتحدة الأميركية.
وذهب الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند الى أبعد من بايرو، فاعتبر أن مقاربات دونالد ترامب العنيفة تُظهر أنّه، خلافاً لما يدّعي، لا تضع روسيا والصين في مرماه، “بل تستهدفنا نحن”، وقال: “إدارة ترامب لم تعد حليفة لنا، وهي تصطفّ إلى جانب خصومنا”.
بالنسبة إلى هولاند، إنّ محاولات التواصل التي يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لن تجدي نفعاً، لأنّ ترامب لا يخدم إلا مصالحه الشخصية، وبالتالي لا قيمة للإغواء والحجج معه. وهو، بذلك، يشبّهه بالزعيم الروسي فلاديمير بوتين الذي لا يهتم إلا بقانون القوة، فيأخذ ما تعطيه إياه بالحوار، ويواصل رحلته إلى تحقيق ما يهدف إليه أساساً، إن لم يتم توقيفه بالقوة.
وبناءً على ذلك، فهولاند، كما قال لصحيفة “لوموند” يظن أنه إذا تمّ وقف الحرب في أوكرانيا، بشروط لمصلحة بوتين، فحينها، سوف ينتظر “قيصر الكرملين” الفرصة للانقضاض مجدداً على أوكرانيا وبعدها على غيرها، إن استطاع. وينتهي إلى الدعوة لإعادة النظر الكاملة في التحالفات العسكرية، من دون انتظار ما يمكن أن ترتئيه الدول الأوروبية مجتمعة، لأنّ بعضها يعمل لمصلحة ترامب- بوتين.
من نافل القول إن “القارة العجوز” تحتاج حتى تنقذ نفسها إلى “إكسير الحياة”، فهل تنجح في اختراعه، بعدما أمعن “العم سام” في جذب غالبية مبدعيها إليه؟