في عيد شهداء الصحافة اللبنانيّة الذي يأتي بعد ثلاثة أيّام من اليوم العالمي للصحافي، يسمع المرء كلامًا مذهلًا برقي معانيه، عن هذه “الرسالة” و عن “حاملي شعلتها”!
ولكن شتّان ما بين المحكى عنه والواقع !
إنّ الصحافة اللبنانيّة، مؤسسات وعاملين، لم تعرف في الواقع تدهورًا معنويًّا وماديًّا، كالذي تمر فيه، ليس في هذه الأيّام فحسب، بل منذ أكثر من عقدين، أيضًا!
ف”حاملو راية الحرية” يعانون من نقص كبير في حريّاتهم، حتى إنّهم، في حال لم يتّبعوا، بالحرف الواحد، تعليمات “صاحب المال”، وجدوا أنفسهم بلا عمل.
و”صاحب المال” لا يزعجهم لأنّه ملتزم بمعايير مهنية صارمة، بل لأنّه يلهث وراء مصالح خاصة، ويعمل على إرضاء جهات مؤثّرة.
كل هذا يحصل في حال كان “صاحب المال” شخصًا عاديًّا، ولكن الطامة الكبرى تبرز عندما يكون “صاحب المال” جهة سياسيّة أو حزبًا أو مرجعيّة، فحينها على الصحافي أن يتطبّع مع “العقيدة” فيُبخّر هنا ويرجم هناك. يسكت على موبقات هذا ويفبرك الحسنات لذاك. ومن يخرج عن قواعد الطاعة، فعليه يسقط الويل والثبور وعظائم الأمور.
إنّ هذا “الإستعباد” لمن يفترض بهم أن يكونوا أحرارًا، يحرمهم من كل ما يجب أن يتمتعوا به: الإستقلاليّة، الموضوعيّة والضمانة!
ولا توجد مرجعيات تحمي الصحافي من “صاحب المال”، فنقابتا الصحافة والمحررين، بدل أن تكونا سندًا للحرية والإستقلالية والضمانة، غارقتين في عالم “أصحاب المال”.
غالبية من يصلون الى مجالس هاتين النقابتين مرتبطون، بصورة أو بأخرى، ب”صاحب المال”.
قبل أيّام، قرأت تصريحًا لصحافي أصبح عضوًا في مجلس نقابة الصحافة، يشكر فيه، علنًا، أحد أهم “أصحاب النفوذ والمال”، لأنّه اختاره أن يكون في هذا الموقع.
الصحافي في تصريحه كان شفّافًا، فهو نال ثمن الولاء، ويجهّز نفسه، على قاعدة “بالشكر تدوم النعم” ليقبض أثمانًا جديدة عن خدمات جديدة أعدّ نفسه لتقديمها الى “صاحب الفضل”!
في السنوات التي سبقت الإنهيار المالي والإقتصادي، جرى، وبشحطة قلم، طرد مئات الصحافيين من مؤسساتهم، لأسباب مختلفة، لا تجد بينها سببًا مهنيًّا واحدًا!
وبقي هؤلاء المطرودون بلا مورد رزق، فراحوا يتوسلون عملًا هنا أو رزقًا هناك، حتى يوفروا زاد عائلاتهم وحليب أطفالهم ودواء مرضاهم.
ومن يتم حرمانه من حريته واستقلاليّته وضمانات مهنته، لا يعود صحافيًّا، هو بالكاد يستطيع أن يكون “مستكتبًا” أو “ناطقًا بلسان” أو “خادم بلاط” أو “مبرر جريمة”.
بعض من لمعت أسماؤهم، في أيّامنا هذه، يستهزئون بمن يتحدث أمامهم عن “أخلاقيات الصحافة”. معهم حق، فهم لم يبقوا في مناصبهم، إلّا لأنّهم نجحوا في وقت مبكر، في إدراك أنّ الشرط الأوّل للديمومة والبحبوحة، في صحافة هذا العالم الثالث، هو رمي “أخلاقيات المهنة” جانبًا وخدمة مصالح “صاحب المال”.
هذا النموذج الصغير لصورة الصحافة الحقيقية في لبنان والعالم الثالث، ليس نتاج “سوداوية”، بل هو كلمة صريحة وواضحة ودقيقة، عن مهنة، إن هي لم تتغيّر، فلن يتطوّر شيء في أوطاننا، لأنّ نهاية كل شيء تبدأ عندما يتم تصوير المستعبَدين على أساس أنّهم صانعو الحريّة!