"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

"شيطان العكسية": لماذا نقوم بالأشياء التي وعدنا أنفسنا بتجّنبها؟

كريستين نمر
الثلاثاء، 4 يوليو 2023

لماذا غالبًا ما تخطر على بالنا الأشياء التي وعدنا أنفسنا بتجنّبها، مع أننا نعرف تمامًا من أنها قد تسبب لنا المتاعب؟

كم من مرة على سبيل المثال، قطعنا وعدًا على أنفسنا بعدم الكلام في السياسة مع أشخاص يخالفوننا الرأي، أو في الدين مع أشخاص ملتزمين دينيًا، أو التقليل من تناول الحلويات أو بدء نظام غذائي صارم، لنجد أنفسنا في النهاية نثير نقاشًا حول الانتخابات الرئاسية ونستخف بتحريم الكحول أمام صديق مسلم ملتزم، أو نأكل “الأخضر واليابس” على الرغم من أننا قد قررنا اتباع “ريجيم” قاسٍ…

كم من مرّة كنا قد وضعنا لائحة طويلة تتضمّن مواضيع “آمنة” آلينا على أنفسنا اتباعها، لتبدأ هذه القائمة، فجأة وبشكل تلقائي ب”التدحرج” غصبًا عن إرادتنا، كما لو أن هناك شيطانًا صغيرًا يقبع في أعماق أذهاننا، يدفعنا في لحظة ما، إلى القيام بعكس ما نرغب فنرى أنفسنا عاجزين عن مقاومته؟!

هذا ما وصفه الروائي الإنجليزي إدغار آلان بو بأنه “شيطان العكسية” والذي جسّده في إحدى رواياته، إذ يقوم بطل الرواية بارتكاب جريمة لا يمكن اكتشافها، إلا أنّ “الشيطان” الذي في داخله يدفعه إلى الكشف عنها وتوريط نفسه.

بشكل أكثر بساطة وبعيدًا عن المواقف المأساوية، يأتي هذا الشيطان الصغير بانتظام في حياتنا اليومية، فهو مثلًا، الذي يبقينا مستيقظين حتى وقت متأخر من الليل لمشاهدة حلقة جديدة من مسلسلنا المفضّل بدلاً من التحضير للاجتماع المهم في اليوم التالي، وهو نفسه الذي يهمس في أذن أولادنا المراهقين ليلعبوا فيفا ٢٠٢٢ بدلاً من التفكير بواجب الرياضيات.

على عكس رغباتنا

على غرار إدغار آلان بو، لاحظ العديد من المراقبين البارزين في علم النفس البشري هذه الاتجاهية لإحداث هذا النوع من السلوك غير المرغوب فيه. بدءًا من تشارلز داروين، الذي كان أحد أوائل المستغربين من هذه الأفعال أو الردود التي تتعارض تمامًا مع إرادتنا الواعية، وصولًا إلى سيغموند فرويد، في نهاية القرن التاسع عشر، الذي أطلق على هذه الظاهرة مبدأ اسم “الإرادة المعاكسة”.

ويفترض عالم النفس والفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس والذي يُعتبر أبًا لعلم النفس العلمي الحديث، في هذا السياق أن النشاط التلقائي للأعصاب ينتشر بشكل معاكس بهدف “الضغط الانتقائي للوعي”. أما شارل بودوان، الناقد النفسي والكاتب الفرنسي، فقد فسّر “قانون الجهد المعاكس” فيقول: “في كل مرة يحدث فيها تضارب بين الإرادة (الجهد الواعي) والخيال (التصوّر العقلي)، نقوم بعمل ليس بما لا نرغب فيه فقط، إنما عكسه تمامًا”.

فمثلًا، إذا رغبنا بشدة في فعل شيء ما ولكننا نخشى عدم القدرة على تحقيقه، فكلما حاولنا، كلما أصبح الأمر أكثر صعوبة. إنه دوامة مفرغة يفهمها جيّدًا الأشخاص الذين يعانون من الأرق، إذ أنّ الخوف من عدم القدرة على النوم، مترافقًا مع إلزامية النوم، يشكلان مزيجًا مثاليًا للبقاء مستيقظًا، وعندما يتلاشى هاجس النوم بفعل الإرهاق، ينامون كالأطفال الرضع.

نسيان اسم شخص مشهور

مثال آخر يوضح قانون الأثر المعاكس هو نسيان اسم شخص ما أو فيلم معروف، فكلما حاولنا تذكّره بجديّة زادت الصعوبة في ذلك. ولكن في وقت لاحق، عندما تتوقف عن المحاولة ونفكّر في شيء آخر، يأتي الاسم بسهولة إلى ذهننا.

هذه الظاهرة لم تفلت أيضًا من رصد الكتّاب الكبار أمثال دوستويفسكي، إذ قدّم في مقالته “ذكريات شتاء عن مشاعر صيف” التي نشرت في عام ١٨٦٣، مثالًا فريدًا لهذه الظاهرة، عندما كتب: “إذا حاول المرء منع نفسه من التفكير في دب أبيض، فإنه لن يتوانى عن التفكير فيه”.

242187733933838

وما لم يكن يعرفه دوستويفسكي هو أنه سيلهم بحثًا استمر لأكثر من قرن من الزمن إذ قام دانيال واغنر في العام ١٩٨٧ من جامعة فرجينيا وفريقه بوضع بروتوكول تجريبي عرف في ما بعد باسم “الدب الأبيض” لاختبار هذه الظاهرة الشهيرة.

في تجربة أولى، طلب واغنر وفريقه من المشاركين أن يصفوا ما يدور في ذهنهم وأن يحاولوا عدم التفكير في دب أبيض لمدة خمس دقائق. وكان على المشاركين أن يبلغوا شفهيًا ويدقّوا جرسًا إذا مرت تلك الفكرة في ذهنهم على الرغم من ذلك.

وجاءت النتائج مدهشة بحيث كشفت عن صعوبة مشاركة المشاركين في إضعاف هذه الفكرة. إلا أنّ الأمر لم يتوقف هنا، ففي تجربة ثانية، طلبوا من المشاركين العكس، أي أن يركزوا تفكيرهم على الدبّ الأبيض، فتبيّن أنّ المجموعة التي طلب منها عدم التفكير بالدبّ الأبيض ركّزت عليه بشكل أكبر من المجموعة الثانية.

وخلصت الدراسة إلى أنه “عندما يكون الخيال والإرادة في صراع، يفوز الخيال دائمًا من دون منازع، وأنّ التنازل عن الصورة العقلية يؤدي على نحو متناقض إلى عودتها”.

وفي العام ١٩٩٤، قام الفريق نفسه بدراسة استنادًا إلى هذا البروتوكول لقياس كيفية قدرة المرء على تثبيط الأفكار بنشاط، أي مدى قدرته على منع نفسه من التناول المفرط للحلويات مثلًا، أو التوقف عن التأجيل عندما يكون هناك ما ينتظره من عمل ملحّ مثلًا، فتبيّن على عكس المعتقدات السائدة، بأن هذا ليس مسألة ضعف بالإرادة، إنما العكس تمامًا، فكلما حاول المرء التحكم بقراراته، يرى نفسه يتجّه بالاتجاه المعاكس لنواياه.

عقلنا سيد السخرية

ويرى دانيال واغنر في هذه “الحيلة السيئة” التي يلعبها الدماغ أو هذه “العمليات الساخرة” كما أسماها، جزءًا لا يتجزأ من فكرة التحكّم ذاتها، ووفقًا لهذه النظرية، فالمشكلة ليست فقط في أننا لا نستطيع النوم أو أننا نفكر بالطعام باستمرار عندما نقلق أو نتّبع نظامًا غذائيًا، بل تكمن في أن كلما أردنا النوم أو منع الأفكار المتعلقة بالطعام، كلما فشلنا بذلك، ويقول: “نبقى مستيقظين ونقلق بشأن عدم القدرة على النوم، ونفكر في محتويات البراد طوال اليوم”.

__لكن ما الذي يدفع المرء لأن يصبح فريسة لهذه الأخطاء؟__

وفقًا لدانيال واغنر، “إن أسوأ عدو لقدرتنا على التحكم الإدراكي هو عدم توافر الاستعداد العقلي، فإذا كنا مشتتين، أو نعاني من حمل عقلي زائد، أو نواجه ضغوطًا كبيرة، أو نشعر بالعجلة، فهذا لا يقلل فقط من قدرتنا على التحكّم، بل يمكن أن يؤدي إلى هذه “الأخطاء الساخرة” التي تعكس عكس ما كنا ننوي القيام به. في هذه الحالة، بدلاً من أن نشعر بالسعادة، نشعر بالحزن، أو إذا رغبنا في الاسترخاء، نشعر بالقلق، أو الاهتمام بشيء ما، فيشعرنا بالملل، وحتى المشاعر العاطفية يمكن أن تتحوّل إلى كراهية وإلى أفكار قاتلة، تتعارض تمامًا مع تفكيرنا الواعي، مثل رؤية سكين والتفكير في أننا يمكن أن نطعن أطفالنا الذين نحبّهم بجنون، أو الابتعاد عن النافذة في اللحظة التي نفكر فيها أنه يمكن أن نقفز منها على الرغم من عدم وجود رغبة انتحارية على الإطلاق”.

ويضيف واغنر” “إن هذه الأفكار الثاقبة، “الساخرة”، أو المتناقضة مع إرادتنا تعتبر نتيجة فشل عمليات التحكم الداخلية لدينا. عندما نحاول بشدة تجنّب فكرة أو فعل معيّن، تحت تأثير الضغط النفسي أو نقص التركيز العقلي، نجد أنفسنا نركّز على الفعل الذي نحاول تجنبه، فيستغل الدماغ هذه الفرصة ليثور ويشوّش الأمور، فيخلط بين المخاوف والرغبات.

الحلّ

Sylvie-CHOKRON-4-1

             سيلفي شوكرون

ويبقى الحلّ لاستعادة السيطرة كما تقول مديرة المعهد الوطني للبحوث العلمية ورئيسة معهد علم النفس العصبي والرؤية العصبية والمعرفة العصبية في مستشفى Fondation Adolphe de Rothschild في باريس سيلفي شوكرون بالآتي:

  • تجنّب قبول كل المهام التي تعرض عليك.

  • توقّف عن الاعتقاد بأنك تستطيع فعل العديد من الأشياء في نفس الوقت

  • حدّد أولوياتك وقم بتخطيط ما تسعى جاهدًا لإنجازه في يوم واحد على مدى عدة أيام.

  • تعلّم كيف تقول، لا وفوّض الأمور للآخرين وأبطئ الوتيرة.

  • ركّز، تنفّس بعمق، استرخ، تأمّل، اعتن بنفسك، مارس الرياضة، واستمتع بمشاهدة المناظر طبيعية والاستماع إلى الموسيقى، أو ببساطة تفاعل مع أحبائك…

كل هذه الطرق تساعد في التصدي للحيل السلبية التي يلعبها الدماغ، وتترك الدب الأبيض يعود بسلام إلى جليده القطبي.

المقال السابق
الحكومة اللبنانية تترك تقدير الموقف في مزارع شبعا ل"حزب الله"
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"هاري الأمير المفقود".. فيلم يفضح ما عاشه دوق ودوقة ساسكس

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية