رون بن يشاي- يديعوت أحرونوت
بدا الرئيس جو بايدن محبطاً، بل مخذولاً يوم أمس حين قال لصحافي أميركي أنه توقّع وصول الجيش الإسرائيلي إلى تحقيق إنجازات بصورة أسرع خلال الأعمال القتالية الدائرة في قطاع غزة. في إسرائيل أيضاً هناك مَن يقطّب حاجبيه نتيجة الوتيرة البطيئة لتقدُّم القوات في شمالي قطاع غزة، وحول مدينة غزة نفسها. لكن الحقيقة هي أن الجيش الإسرائيلي يتقدم ببطء بصورة مقصودة. هذه هي طريقة القتال الجديدة التي طوّرها سلاح المشاة الإسرائيلي طوال السنوات الماضية، وعلى يد رئيسَي هيئة الأركان غادي أيزنكوت، وبصورة أكبر، أفيف كوخافي. لا يدور الحديث هنا فقط حول طريقة القتال فحسب، بل إن القوات العسكرية الإسرائيلية تزوّدت بصورة ملائمة للأمر، بحيث يمكنها القتال ببطء، في حين يتمثل الهدف الأساسي في الحد، بقدر الإمكان، من الخسائر في أرواح المقاتلين، وأرواح غير المقاتلين من جانب عدوه.
هناك 4 عوامل رئيسية أدت إلى اختراع وتنفيذ هذه الطريقة. العامل الأول، يرتبط بحساسية إسرائيل الشديدة تجاه الخسائر في صفوف الجنود. يبدو أن مردّ ذلك إلى الصدمة القومية المتمثلة في المحرقة النازية، إلى جانب الثقافة اليهودية - الإسرائيلية، التي تقدّس حياة الإنسان، والتي تقدس على وجه الخصوص، ضحايا الحروب الذين يسقطون، لكي يتمكن الآخرون من العيش حياة عادية. تصبح نتيجة الأمر في بعض الأحيان سخيفة: يُنظر إلى مسألة سقوط الجنود في معركة على أنها أفظع من سقوط مدنيين يُقتلون في هجوم. هذا التصور دفع بالجيش الإسرائيلي على مدار السنوات الماضية إلى تصميم هذه الطريقة من طرائق استخدام القوة والقتال.
العامل الآخر، هو الحاجة إلى منع إلحاق الأذى بالمدنيين في الجانب الآخر، وهو ينبع، بدرجة أقل، من دوافع أخلاقية سامية، ودوافع أكثر تتمثل في الحاجة إلى الحفاظ على شرعية العمل. إن جميع أعدائنا، ابتداء من حزب الله، ووصولاً إلى حركة “حماس”، تعلموا أن العالم يتوقع من دولة اليهود أن تتصرف بصورة مغايرة، وأن تتبنى معايير أعلى من الأخلاقيات القتالية، من تلك التي يتبناها الأميركيون، على سبيل المثال، والتي جعلتهم يسمحون لأنفسهم بالقيام بما قاموا به في فيتنام، وأفغانستان، والعراق. إن الشعار الذي يتكرر في العالم، هو أن هناك توقعاً آخر من شعب تعرّض، على مر التاريخ، للملاحقة، والهجمات الجماعية، والإبادة. إن الحاجة إلى حفظ الشرعية الأخلاقية، وإظهار الالتزام المتشدد بقوانين الحرب الدولية، كانت أيضاً عاملاً دافعاً في اتجاه تطوير طرائق القتال الجديدة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
العامل الثالث الذي أدّى إلى تطور أسلوب القتال هذا، هو التكنولوجيا، التي تتيح للمقاتل في الميدان البري تلقّي معلومات استخباراتية ذات جودة عالية، وأن يتلقى، على وجه الخصوص، مساعدة تتمثل في الضربات النارية الدقيقة الإصابة، من مصادر كثيرة ومتنوعة، وهو ما يوفر عليه الحاجة إلى مواجهة العدو وجهاً لوجه، وفوّهة إلى فوّهة.
أما العامل الرابع، فهو أسلوب القتال الذي اعتمدته الجيوش “الإرهابية” من حولنا. يُطلق على أسلوب القتال هذا “العدو المختفي”. لا يخرج مقاتلو حزب الله، أو حركة “حماس” لمواجهة الجيش الإسرائيلي، بل يختبئون إلى أن تقترب القوات، وعندها يغيرون عليها من المخابئ التحت أرضية، أو تلك التي فوق الأرض، حيث يطلقون النار، أو يفجّرون العبوات، أو يطلقون الصواريخ المضادة للدروع، ثم يعودون للاختفاء. تتمثل نتيجة الأمر في الحاجة إلى العثور على المقاتل المعادي في الثواني التي يظهر خلالها، والتمكن من تشغيل قوة نارية ضده بهدف قتله. وهذا ما يستوجب القيام بأعمال قتالية بطيئة الوتيرة. البلدوزر في المقدمة
العوامل الأربعة الآنفة الذكر، دفعت بالجيش الإسرائيلي إلى تطوير مفهوم كان قائماً في الجيش الأميركي، وهو مفهوم الحرب المدمجة. ولتلخيص هذا المفهوم، فالمقصود هو أن خلية من عناصر “حماس” تقوم بإطلاق صاروخ مضاد للدروع، سيتم كشفها بسرعة، قبل أن تتمكن من إطلاق الصاروخ، فيتم ضرب هذه الخلية بصاروخ جو - أرض، قبل نجاحها في العودة والاختفاء. هذا يعني أن العدو يلاقي في ميدان القتال في جباليا أو الشاطئ، ليس فقط مقاتلاً من لواء غفعاتي، أو دبابة تتقدم نحوه، بل يواجه عظمة الجيش الإسرائيلي كلها، جواً وبراً، وفي بعض الأحيان، بحراً أيضاً، خلال دقائق من لحظة انطلاقه لضرب قواتنا. لنفترض، على سبيل المثال، أن قائد كتيبة “ناحال” يعمل حالياً في قطاع غزة، ويلاحظ وجود نحو 15 “إرهابياً” في صف المنازل أو الأنقاض التي تتقدم قواته في اتجاهها. لن يقوم هذا القائد بمهاجمتهم. بل سيتصل بقيادة الفرقة النارية الموجودة في مكان ما في الصفوف الخلفية، ربما داخل “حدود إسرائيل”، وبكلمات مقتضبة يوضح حاجته. يقرر القائد في قمرة الهجوم ما إذا كان سيرسل إليه مروحية عسكرية، أو طائرة زيك المسيّرة [هيركولس 415]، أو مقاتلة حربية، أو الاكتفاء ببضع رشقات مدفعية أرضية قادرة على إطلاق صواريخ من طراز “رومح” [AccuLAR-122] الشديدة الدقة.
لن تحتاج المقاتلات، أو المروحيات، إلى الإقلاع والوصول. فهي موجودة أصلاً في حلقات انتظار، في أماكن غير بعيدة، ويمكنها، نظرياً، الوصول إلى المكان خلال أقل من دقيقة، من أجل إطلاق ذخائرها في اتجاه الهدف الذي يشير إليه قائد الكتيبة. لكن هذا الهدف ينبغي أن يتم تحديده بدقة، وفحصه والمصادقة على إصابته، والأمر يتطلب بضع دقائق. بعدها يقوم قائد الكتيبة بتوجيه الطيار، أو مشغّل الطائرة المسيّرة بدقة إلى السطح، أو النافذة التي ظهر “المخربون” من خلالها، ويقوم الطيار أو المشغّل بالتكفل بالبقية: فالهدف الموجود على بُعد 200 متر لا غير عن قوة الجيش الإسرائيلي، يتم إلقاء قنبلة موجّهة دقيقة الإصابة من طراز JMD يبلغ وزنها طناً في اتجاهه. ودقة إصابة هذه القنبلة تتيح إلقاءها من مسافات شديدة القرب من قوات الجيش الإسرائيلي العاملة في الميدان.
بعد القضاء على الهدف، يقوم قائد الكتيبة بإخراج عناصره من الكمائن، والتقدم في اتجاه الهدف المقبل. تتقدم الدبابات على التوازي، في حين يتحرك أمامها ببطء بلدوزر ضخم من طراز D-9، لكن من دون هذا البلدوزر الذي سيكشف العبوات، أو حتى يشغلها، لكان عدد الخسائر في الدبابات والسيارات المدرعة وصل إلى عدد لن يقبله الرأي العام الإسرائيلي، أو يتمكن من التصالح معه.
فوّهات الأنفاق أولاً، ثم نستمر
تجدر الإشارة إلى أن طريقة العمل البطيئة هذه لا يحين أوانها إلاّ بعد تحضير وسحق باستخدام القوة النارية، قبل وصول القوة إلى المناورة البرية. هذه العملية تتطلب وقتاً، كثيراً من الوقت، ووقتاً أطول مما كان مطلوباً، على سبيل المثال، في حروب كحرب الأيام الستة، أو “حرب الغفران”، التي اكتفى فيها الجيش الإسرائيلي بالهجوم الخاطف إلى الأمام، متكبّداً خسائر كثيرة، على الرغم من أنه تمكن، بهذه الطريقة، من إنجاز مهمته بسرعة.
الآن، يعمل الجيش الإسرائيلي ببطء، وبطريقة آمنة، بقدر الإمكان. علاوةً على ذلك، حين يتعلق الأمر بحركة “حماس” التي تختبئ تحت سطح الأرض، في مدينة قتالية يخرج منها المقاتلون عبر فوهات الأنفاق، فإن الأمر يتطلب وقتاً أكثر مما تتطلبه الأعمال القتالية العادية ، التي يكون فيها العدو فوق سطح الأرض. يجب كشف فوهات الأنفاق، وتحفيز العدو على الخروج منها، وتدميرها، وبعدها فقط يمكن التقدم إلى الأمام والمواصلة. نتائج هذا السحق من الجو الذي سبق إطلاق التحرك البري يجعل العثور على فوهات الأنفاق صعباً، ولذا، يجب الانتظار إلى أن يخرج العدو من داخلها من أجل التعرف إلى مواقعها. وكل ذلك يجب فعله بحذر، خوفاً من إمكان وجود المختطفين في تلك الأنفاق.
تمكنت هذه الطريقة، حتى الآن، من إثبات نجاعتها. فالواقع يقول إن الجيش الإسرائيلي موجود على مسافة قريبة جداً من قلب مدينة غزة، من دون أن يتعرض لخسائر هائلة في الأرواح، كان من الممكن أن تقع لو قاتل الجيش بالطرق القديمة. إن أي جيش في العالم يعلم بأن القتال في المناطق المبنية يسفر عن كثير من الخسائر، من الجهة المنفّذة للهجوم، ومن جانب المدنيين غير المتورطين أيضاً. إن طرائق العمل التي يتبناها الجيش الإسرائيلي اليوم في قطاع غزة، تستند إلى المعلومات الاستخباراتية، والذخائر الدقيقة، وإلى قوات برية قادرة على التحرك داخل المنطقة المدينية، بل عبر الجدران في بعض الأحيان. ويحدث ذلك كي لا يتمكن العدو من تشغيل عبواته المتفجرة، أو يطلق صواريخه المضادة للدروع من الكمائن التي حضّرها مسبقاً للقوات التي ستتقدم عبر الشوارع، كما توقع.
الستار الناري الذي يسبق القوة المهاجمة
هنالك مكوّنان آخران مهمّان في طريقة القتال المعمول بها: أولاً، إن الدبابات والعربات المصفحة التي دخلت إلى قطاع غزة، مجهزة بمنظومات “معطف الريح”، التي تحميها من الصواريخ المضادة للدروع، وصواريخ آر بي جي. وثانياً، وهو الأهم، هناك “الستار الناري المتقدم” أمام قوة الدبابات والمشاة التي تتقدم وراءه، وهذا الستار يحمي القوة، ويضرب العدو الذي ينطلق لمواجهتها. إن “ستار النار” مكون بصورة أساسية من المدفعية، وصواريخ رمح الموجهة من الأرض، إلى جانب المقاتلات الجوية، والمروحيات، والطائرات المسيّرة من الجو.
في كثير من الأحيان، يتعين على القوة المقاتلة تكرار العمل في ذات المربع الأرضي الذي عملت فيه سابقاً، بسبب وجود “مخربين” في الأنفاق تحت المربع؟ يؤخذ هذا في الحسبان، والجيش الإسرائيلي يفضل العودة من أجل إجبار مقاتلي حركة “حماس” على الخروج مجدداً فوق الأرض، بدلاً من نزول مقاتليه إلى داخل الأنفاق ومواجهتهم هناك.
صحيح أن لهذه الطريقة في القتال البطيء عيوبها، لكنها أكثر صرامةً، وهي تتيح للمدنيين غير الضالعين في الأعمال القتالية الفرار من أماكن القتال، حتى في الوقت الذي تدور الأعمال القتالية بالقرب من هذه المناطق. هذه الميزة تُعد هائلة في معركة الحصول على الشرعية الدولية. أما أحد أكبر مساوئ هذه الطريقة، فيتمثل في أن البطء يتطلب وقتاً أكثر من أجل تحقيق الأهداف، والرأي العام الأميركي والعالمي، ليس فقط غير صبور، بل أيضاً، وبوازع موجّه، يهدف إلى تحصيل وقف إطلاق نار لمصلحة “حماس”، لينقذها من التحطم على يد الجيش الإسرائيلي. هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه دوائر صنع القرار السياسي الإسرائيلية: كيف يمكنهم أن يوضحوا لأصحاب القرار في الدول الغربية، ابتداءً من الرئيس بايدن، ومروراً بأعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ، ووصولاً إلى زعماء أوروبا وكندا، ما الذي تقوم إسرائيل بفعله، وكيف تفعله، وأن توضح لهم أن الوقت لا يعمل فقط لمصلحة إسرائيل، ولمصلحة تقويض حركة “حماس”، في ظل الحد الأدنى من الخسائر في القوات، بل أيضاً لمصلحة “القضية الإنسانية” التي يؤثِرونها جميعاً.
هنا، تجدر الإشارة إلى أن الأميركيين يبدون انعدام تفهّم للوتيرة البطيئة والمقصودة التي يقاتل الجيش الإسرائيلي بها، على الرغم من أنهم احتاجوا إلى وقت ناهز الثلاثة أعوام لطرد “داعش” من العراق، وأكثر من 10 أعوام للتغلب على تنظيم القاعدة. وها هم الآن يُظهرون نفاذ صبرهم تجاه النشاط الإسرائيلي، نتيجة الضغوط السياسية الداخلية.