بتاريخ 15 حزيران/ يونيو 2019، عقد كل من عبد الله سلام وماري- جو أبي ناصيف زواجاً مدنياً في قصر سرسق في بيروت. في الصف الأول، كان جالساً، بسعادة عارمة، الدكتور نواف سلام، والد العريس!
يومها، كانت هناك حملة مدنية على وزارة الداخلية التي أوقفت قبل حين بقرار من نهاد المشنوق، تسجيل عقود الزواج المدني التي يتم عقدها في لبنان.
لم يكن المشنوق يومها هو الذي يغرّد خارج السرب بل سلام، لأنّ القرار الذي اتخذه وزير الداخلية كان يتوافق مع إ رادة المرجعيات الدينية على اختلافها في لبنان، وتساندها في ذلك جميع المرجعيات الدستورية وأقوياء الطبقة السياسية!
وتكفي هذه المشهدية لمعرفة النطاق الذي طالما عاش فيه نواف سلام، وجعله على ارتباط وثيق بروحية المجتمع المدني الذي أخذ قسطه من المشهد اللبناني في ضوء “ثورة” 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وشكل بداية صعود سلام في قائمة المرشحين الدائمين لرئاسة الحكومة حتى تكليفه، في استشارات الاثنين الماضي، بتشكيل أولى حكومات عهد الرئيس جوزف عون.
عفواً أو قصداً، فإنّ تمكين نواف سلام في هذه اللحظة الإقليمية من الوصول إلى رئاسة الحكومة ليس تفصيلاً مهملاً، إذ إنّ المفارقة تكمن في أنه جرى اختيار رجل معروف بأفكاره المدنية وبابتعاده عن العصبية الطائفية، للمنصب السنّي الأول في لبنان، في وقت كان قد وصل فيه إلى سدة القيادة في سوريا زعيم “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع الذي، مهما اعتدل في مواقفه، فهو ابن طبيعي للإسلام السياسي ومبادئه و”حرامه وحلاله”!
وتجربة نواف سلام في لبنان، في هذا السياق الجيو-سياسي مهمة للغاية، فهي لا تفصل سياسياً وأمنياً واستراتيجياً واقتصادياً، بين لبنان وسوريا، ولكنها تضع نموذجين للمسلمين في الواجهة. الأوّل يمثله سلام المدني والآخر يجسّده الشرع الإسلامي!
وفشل تجربة نواف سلام في مقابل نجاح تجربة أحمد الشرع، يشكل خطراً حقيقياً، على من لا يريد أن يخرج نموذج “الجولاني” من “الجغرافيا السورية”، فنموذج الشرع مقبول في سوريا -حتى إشعار آخر- لأنّه كان القائد الوحيد المتوافر لإطاحة نظام بشار الأسد، على اعتبار أنّ الديكتاتورية بطبيعتها تصفّي البدائل “العادية”، وتضطر الجميع إلى القبول بالاستثنائيين، في حين أنّ النظام اللبناني، ولو أصيب بأمراض التسلطية والهيمنة، إلّا أنّه قادر، مع تبدل الظروف القاهرة، على إنتاج قادة تقدميين!
في الواقع، إنّ إيصال نواف سلام إلى رئاسة الحكومة، هو ثورة دستورية حقيقية، قد تحاكي حاجة إقليمية ودولية عارمة، انطلاقاً من وضع نموذج سنّي مختلف في لبنان عن النموذج الذي نجح انقلابه في سوريا!
ولذلك، فإنّ نواف سلام، سيكون أمام مطبّات خطرة للغاية، فهو لن يكون المفضل لدى المرجعيات الدينية، على اختلافها، بل هو مصدر إزعاج، حتى لو جمّد راهناً، بفعل تزاحم الأولويات، خططه نحو المواطنية المرتبطة بالدولة وليس بالطوائف. كما لن يكون مصدر ارتياح للقوى السياسية التي تستمد قوتها من طوائفها وليس من لبنانيتها ومن الدستور ومن مبادئ العيش المشترك.
وموقف “حزب الله” المعارض بقوة لنواف سلام، لا ينبع من موضعية رئيس الحكومة الجديد من إسرائيل، لأنّه في الواقع ينتمي إلى الفئة التي طالما ناصبت إسرائيل العداء، فهو صديق الشهيد جورج حاوي، حتى قبل أن يشكل وإلياس عطاالله “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” (جمول) التي افتتحت عمليات إخراج جيش الاحتلال الإسرائيلي من لبنان، واستمرت فيها حتى صادر الحزب الذي شكله الإيرانيون، بالقوة والاغتيال، هذه المهمة وربطها بالمحور السوري-الإيراني ومصالحه العابرة للبنان.
ووفق قرار الاتهام الصادر عن مكتب الادعاء العام في “المحكمة الخاصة بلبنان” والذي صادقت عليه غرفة قاضي الإجراءات التمهيدية، فإنّ مجموعة يتزعمها المسؤول الأمني في “حزب الله” سليم عيّاش (قتلته إسرائيل في سوريا خريف العام الماضي) نفذت جريمة اغتيال جورج حاوي!
ونوَاف سلام لا يضع كل أعباء ما حصل من كوارث في لبنان على عاتق “حزب الله”، كما يفعل مؤيدو الحزب في غرفهم المغلقة، ولكنّه نموذج للمواطنية التي لا يحب “حزب الله” توافرها في أيّ مسؤول لبناني، لأنّ هذا الحزب يحاول أن يصادر القرار الوطني من خلال إحكام سيطرته على الطائفة الشيعية التي تحت رايتها عمل بلا هوادة على تخريب 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ويحاول راهناً تخريب الاندفاعة الجديدة للبنان نحو إقامة دولة تستحق هذه التسمية!
إنّ إفشال مهمة نوّاف سلام، وهذا ما يأمله كثيرون، لن تكون له انعكاسات سلبية على لبنان فحسب، بل ستكون له تداعيات مهمة على عموم المنطقة انطلاقاً من الفوارق الهائلة بين شرع سوريا وسلام لبنان!
هذه الإفتتاحية نشرت في “النهار”