غامر عدد من الغزّويين الذين كانوا قد غادروا شمال القطع بالعودة اليه لتفقد ممتكلاتهم، فكانت الصدة الكبرى، فحجم الدمار الذي عاينوه أكبر ممّا تخيّلوه وإمكان استعادة حياتهم السابقة للحرب يبدو، بالنسبة إليهم، مستحيلًا!
في تحقيق أجرته “هآرتس” قالت إسراء، معلمة اللغة الإنجليزية: “الآن فقط ندرك حجم الدمار”.
تزوجت إسراء الصيف الماضي وانتقلت للعيش في بيت لاهيا شمال قطاع غزة ، ولكنها انتقلت وزوجها، مع بداية الحرب الى دير البلح. وبعد إعلان الهدنة المؤقتة، وبحلول ساعات الصباح الباكر من يوم الجمعة الماضي، غادرت وزوجها دير البلح، واتجها شمالاً.
عندما وصلت الى منزلها المدمّر كما حال كل شيء في شارعها في بيت لاهيا، قالت إسراء:” أتمنى الآن لو لم تحصل الهدنة”. كلماتها هذه تعكس الإحباط والخسارة الفادحة التي عاشتها في اليوم الأول من الهدنة المؤقتة.
وروت: “أتينا سيراً على الأقدام لمعرفة ما حدث لمنزلنا. لا أعرف لماذا خاطرنا؟ كانت هناك جثث متناثرة على طول الطريق. وعندما مشينا شمالاً رأينا الخراب والدمار. ماذا بقي من مدينة غزة؟
وقالت إن بضع عشرات من الأشخاص انضموا إليهم في الرحلة الخطرة. كنا نعلم أن الجيش الإسرائيلي في الشمال. سلكنا طرقًا بديلة، وليس شارع صلاح الدين، الطريق السريع الرئيسي.
وعندما سئلت عن سبب قرارهم بالعودة إلى شمال القطاع، أ جابت: “أردت أن أرى ما تبقى من المنزل الذي حلمت أن أبدأ فيه حياتي الجديدة. كان كل شيء في حالة خراب. أخذنا بعض الأمتعة الشخصية والقليل من الملابس. لم يكن هناك حياة حوله. لقد تم القضاء على أحياء بأكملها.”
حاولت إسراء الاتصال بوالديها، بعدما انقطع الاتصال بهم منذ ثلاثة أسابيع. هم أصروا على البقاء في الجزء الشمالي من قطاع غزة، “لكننا غادرنا. سنقضي الآن الأيام القليلة المقبلة في زيارة المدارس التي تديرها الأمم المتحدة، في محاولة للعثور عليهم”.
وتدخل أحمد، زوج إسراء، في الحديث فقال إنّ “شوارع بيت لاهيا تحولت إلى خراب، مما جعلها غير صالحة للسيارات. إن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية غير مفهومة. إنه في كل مكان، ومن المستحيل وصفه”.
أضاف:” إن الشارع الرئيسي في البلدة، الشيماء، تعرض لأضرار كبيرة بسبب الدبابات الإسرائيلية التي احتشدت هناك”.
وتعود إسراء الى الكلام وتقول : “يبدو أن الأمر يشبه آثار الزلزال. لا شيء بقي كما كان. ما هو ذنبنا؟ . إنّ مشكلة [إسرائيل] مع المقاومة [حماس]. لماذا إيذاء المدنيين؟ لقد دمرت حياتنا. لقد تحطمت عائلاتنا. لم يبق هناك أي منازل، فقط الحجارة”.
ويضيف أحمد: “من المستحيل العيش هنا. إنها مثل مدينة الأشباح. سوف نعود للعيش في إحدى مدارس الأونروا”. ووفقا له، لن يعود الناس في أي وقت قريب إلى الجزء الشمالي من غزة. ويقول: “من المستحيل أن نعيش هكذا”. إسراء وأحمد ليسا الوحيدين اللذين صدمتهم مشاهد ما بعد وقف إطلاق النار. وتشعر نجوى، وهي أم لطفلين من مدينة غزة، بمشاعر مماثلة. غادرت إلى رفح في الجنوب في الأيام الأولى من الحرب لتقيم عند أقاربها. “ما الذي يمكنك أن تأمل أن تفعله في أربعة أيام؟ بالتأكيد لن يعود الناس إلى ديارهم”، مؤكدة أن نسبة كبيرة من سكان غزة الذين غادروا إلى الجنوب يخشون العودة إلى منازلهم. ”
ورغم أن وسائل الإعلام العربية عرضت صورا ومقاطع فيديو لسكان غزة العائدين إلى شمال القطاع، إلا أن نجوى تقول إن عدد هؤلاء قليل. فقط قلة من النازحين قرروا ذلك. وتصرح قائلة: “لن نعود إلا عندما يكون هناك وقف دائم لإطلاق النار، وليس وقفًا يستمر لبضعة أيام فقط”.
ووفق هآرتس، فقد رسمت روايات سكان غزة صورة قاتمة. ويبدو أن وقف إطلاق النار لم يغير حياة الناس أو يثير أي شعور حقيقي بالارتياح. إنهم يرون أن هذا بمثابة وقفة قصيرة تخفف إلى حد ما من المخاوف من الموت .. وبعضهم لا يفكر حتى في الطعام أو الماء، بل يفكر فقط في مغادرة قطاع غزة. ريحان، من سكان مدينة غزة، وانتقلت إلى خان يونس مع زوجها وأطفالها الثلاثة في بداية الحرب، قر رت استغلال أيام وقف إطلاق النار لتسريع خروج العائلة من غزة. “قلبي هنا في غزة، مع حياتي وأصدقائي. لقد ولدت هنا. هذا هو المكان الذي عملت فيه وأنجبت أطفالي. ولكن إلى متى يمكن للمرء أن ينتظر الموت ليلحق بك؟ تساءلت بحزن.
تنتمي ريحان إلى إحدى العائلات الأكثر ثراءً في غزة، وتعيش في برج سكني مرموق في مدينة غزة. “لم نكن لاجئين من قبل، لكننا الآن كذلك. كل خياراتنا سيئة. هل يجب أن نذهب مرة أخرى للبحث عن الماء للأطفال؟ هل يجب علينا ببساطة المغادرة والبدء من جديد؟ ” تعجبت.
وتقول إن قرار المغادرة كان مطروحاً على الطاولة منذ الأسبوع الثالث للحرب. ولكن إعلان أنّ وقف إطلاق النار هو لأربعة أيام فقط، عجل بقرارهم. وأضاف: “أخشى الآن من الأيام المقبلة، بعد انتهاء وقف إطلاق النار. ولم تعد لدينا القوة للتعامل معها. علينا أن نغادر.” وريحان ليس الوحيدة التي تنوي مغادرة قطاع غزة. وتقول : “بهدوء، سكان غزة الذين لديهم الإمكانيات المالية وأقاربهم في الدول الأوروبية أو أستراليا أو الولايات المتحدة، يتصلون لأقاربهم لمساعدتهم على المغادرة”.
وتقول أصالة، وهي طالبة في الأدب واللغة العربية في جامعة الأزهر في غزة: “لست متأكدة من أنه يمكننا أن نعلق أي آمال على المساعدات الإنسانية”. لذلك قررت أن تغادر هي وعائلتها في اليوم الأول لوقف إطلاق النار. “إنهم [المنظمات الإنسانية] يقدمون لنا الطعام والماء مثلما يحصل عليه السجناء في السجن. بكل بساطة. ولكننا نريد أن نعيش بكرامة؛ وقالت في مكان آمن انتقلت إليه: “أنا وعائلتي لا نستحق أن نترك نتسول للحصول على الماء والطعام”.
عادت إسراء وأحمد من شمال قطاع غزة إلى دير البلح خاليي الأيادي، من دون أن يعرفا مصير والديهما. واصلا، صباح السبت، البحث عنهم في مدارس الأونروا القريبة من دير البلح. وبين بحث وآخر، حضرا جنازات أفراد الأسرة والمعارف. “إن دفن الجثث وقراءة الصلاة وإقامة الجنازة هو واجب ديني. قالت إسراء: “حتى الآن، لم نتمكن من الحزن على أحبائنا”. وتختم أسراء:” “لم يسبق لي أن رأيت غزة في حالة خراب كهذه. قصص الموت والدمار موجودة في كل مكان وفي كل حي. غادر الأطفال دون أهلهم. لقد تدمرت عائلانت. أشك في أن وقف إطلاق النار المؤقت سيكون مفيدًا”.