بعد ست سنوات ونصف السنة من ترؤس الإدارة العامة للأمن الخارجي DGSE الفرنسية (الاستخبارات الخارجية)، يودّع السفير برنار إ يمييه (65 عاماً) منصبه الحساس بحضور وزير الدفاع سيبستيان لو كورنو، ويخلفه في منصبه نيكولا ليرنير (45 عاماً) الذي كان على رأس الإدارة العامة للأمن الداخلي DGSI (الاستخبارات الداخلية) المسؤولة عن مكافحة الإرهاب على الأرض الفرنسية. والسفير إيمييه وجه معروف في لبنان منذ عمله إلى جانب الرئيس الراحل جاك شيراك وقبل توليه منصب السفير في هذا البلد. وهو من الدبلوماسيين اللامعين المعروفين في فرنسا والخارج لكفاءاتهم وقوة شخصيتهم ونزاهتهم.
خلال عمله في إدارة الأمن الخارجي، كان إيمييه من بين الشخصيات الأكثر نفوذاً المحيطة بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومن أقرب المقربين منه. تولى مهمات سرية حساسة في الجزائر ولبنان وتركيا وبيلاروسيا، بعدما عمل سفيراً ناجحاً في كل من عمان ولبنان وتركيا ولندن والجزائر، حيث كانت له علاقات واسعة سياسية واجتماعية، لا سيما مع نظيره في السفارة الأميركية في عمان وليام بيرنز الذي أصبح لاحقاً نظيره على رأس الاستخبارات الأميركية وبقي صديقه.
بدأ إيمييه مهنته الدبلوماسية بعد تخرجه في مدرسة الإدارة الوطنية العريقة ENA التي خرّجت كبار موظفي فرنسا، ومنهم إيمانويل ماكرون بعد سنوات من إيمييه الذي تخرج في الوقت نفسه مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، وهو ما زال على علاقة جيدة وودية معهما، فهما عملا معاً إلى جانب الرئيس شيراك. ولإيمييه علاقات واسعة في فرنسا مع السياسيين من مختلف التيارات، فهو محسوب على اليمين الديغولي لكنه أقام علاقات واسعة مع شخصيات من اليسار، خصوصاً أنه وزوجته إيزابيل أحسنا استقبال السياسيين في مقار السفارات المختلفة التي عمل فيها، إن كان في بيروت أو عمان أو أنقرة أو لندن أو الجزائر.
عرف إيمييه في أوساط جيل الدبلوماسيين الصاعد بأنه يعمل من دون انقطاع ويطلب من معاونيه أن يعملوا بالكثافة التي يعمل بها. تولى في عهد شيراك مناصب رفيعة في الخارجية مع وزير الخارجية ورئيس الحكومة السابق ألان جوبيه، ثم انتقل إلى القصر الرئاسي ليكون مستشاراً لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لعب دوراً مهماً في عهد شيراك مواكباً علاقات الرئيس الفرنسي الوثيقة جداً برئيس الحكومة اللبنانية الشهيد رفيق الحريري وملك المغرب الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة ورئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، وقد عرفهم عن قرب.
كان إيمييه من القلائل المحيطين بالرئيس شيراك الذين كانوا على علم بالإعداد للقرار 1559 لتحرير لبنان من الاحتلال السوري، كان رجل المهمة الدقيقة عندما أرسله شيراك كمبعوث في شباط (فبراير) 2004 ليجس نبض الإدارة الأميركية في احتمال العمل مع فرنسا حول لبنان واحتمال إجراء مصالحة أميركية فرنسية بعد معارضة فرنسا الحرب على العراق، فحمل إيمييه نصاً مرتبطاً باستقلال لبنان وسيادته والتخلص من الاحتلال السوري، وكان التجاوب الأميركي إيجابياً وتمت المصالحة في حزيران (يونيو) بين الرئيسين جورج دبليو بوش وشيراك في النورماندي. ثم أرسل شيراك إيمييه سفيراً إلى لبنان لثقته الكبيرة به، وبعد وصوله إلى بيروت بنحو شهر تم اغتيال الرئيس الحريري.
استأنف إيمييه عمله في بيروت بالتعاون الوثيق مع سفير الولايات المتحدة آنذاك جيفري فيلتمان الذي كانت تربطه علاقة احترام وزمالة فاعلة مع إيمييه، حتى أنهما كثيراً ما وُصفا بأنهما مفوضان ساميان.
تعرف إيمييه إلى ماكرون حينما زار الأخير السفارة الفرنسية في لندن، وكان وزيراً شاباً للمالية في عهد الرئيس الاشتراكي فرانسوا هولاند. كان لماكرون أيضاً صديق لبناني مشترك مع إيمييه هو سمير عساف نائب رئيس مصرف HSBC المقيم في لندن والذي كان يعرف ماكرون منذ أن عمل في مصرف روتشيلد. ثم التقيا عندما كان إيمييه سفيراً في الجزائر. هكذا اختار ماكرون إيمييه من بين المرشحين لمنصب الإدارة الحساسة.
لم يصل إيمييه بعد إلى سن التقاعد وهو 67 سنة لكبار الموظفين الذين لديهم ثلاثة أولاد، ولكن ماكرون في صدد تغيير عدد من أفراد طاقم المقربين منه بعد الانتقادات التي يتعرض لها على صعيد السياسة الخارجية، خصوصاً في مالي والنيجر ودول أفريقية أخرى حيث أدت الانقلابات إلى إخراج فرنسا من هذه الدول. وقد يكون تغيير إيمييه لتحميله مسؤولية الفشل في أفريقيا، علماً أن العهود الرئاسية الفرنسية المتتالية هي المسؤولة عن فشل فرنسا في أفريقيا وليست إدارة الاستخبارات.
وليس صحيحاً أن تغيير إيمييه مرتبط بسياسة ماكرون في لبنان ونيته تغيير طاقمه المسؤول عن الملف. طبعاً، كان ماكرون يعتمد على تحليلات إيمييه وبعض مستشاريه حول الأوضاع في لبنان، ولكنه في النهاية وحده كان صاحب القرار. على سبيل المثال، عندما وقعت كارثة انفجار المرفأ وأحاطه مستشاروه علماً بالكارثة، طلب منهم فوراً أن يعدوا له للقيام بزيارة على الأرض في لبنان وتمت. أيضاً بالنسبة إلى موضوع الرئاسة اللبنانية، فكثيراً ما تردد في الأوساط اللبنانية أن مستشار الرئيس الفرنسي السابق لشؤون الشرق الأوسط باتريك دوريل هو الذي يسوّق لتأييد المرشح سليمان فرنجية، أو أن إيمييه أوعز بتأييد فرنسا له، وذلك أيضاً غير دقيق، لأن الاقتراح جاء من الرئيس نفسه الذي راهن على حصول فرنجية على الأغلبية في البرلمان. قد يكون ماكرون اقتنع بهذا الاحتمال من الذين يسمون في باريس “زوار الليل لقصر الإيليزيه” الذين لديهم علاقات صداقة مع الرئيس وينصحونه. ومن هؤلاء رجل الأعمال اللبناني النافذ جيلبير شاغوري صديق الوزير فرنجية الذي يعرف ماكرون منذ أن كان الأخير شاباً في الـ22 من عمره عندما خضع لتدريب كمستشار للسفير الفرنسي في نيجيريا جان مارك سيمون الذي سبق له أن عمل في السفارة في لبنان. وكانت وظيفة ماكرون الشاب اللامع، كما وصفه السفير، أن يقيم روابط مع النافذين في نيجيريا، وشاغوري كان من بين كبار النافذين في نيجيريا بفعل صداقاته الوثيقة برؤسائها وإدخاله شركة توتال العملاقة إلى إليها. ومن غير المستبعد أن يكون ماكرون اقتنع بتمكن فرنجية من الوصول إلى الرئاسة في لبنان ثم عدل عن هذا التركيز عندما أدرك أن فرنجية ما زال عاجزاً عن تجميع الأغلبية حوله. ثم سلّم ماكرون المهمة إلى مبعوثه الخاص جان إيف لودريان للتنسيق مع لجنة الدول الخماسية. وعليه فالاعتقاد السائد في بعض الأوساط اللبنانية بأن تغيير إيمييه يندرج في إطار رغبة ماكرون في تغيير طاقم المسؤولين عن الملف اللبناني هو تحليل خاطئ.
وفي السياق، يرغب باتريك دوريل في تسلم سفارة فرنسا في العراق، وهو منصب مهم وحلت مكانه السفيرة آن كلير لوجاندر المستشرقة التي لها معرفة واسعة بمنطقة الشرق الأوسط والملف اللبناني والقضية الفلسطينية منذ أن تولتهما في السفارة الفرنسية في نيويورك، ثم عندما كانت سفيرة في الكويت ومستشارة لوزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس. أما السفير إيمانوييل بون، وهو رئيس المستشارين في القصر الرئاسي، فسيبقى إلى جانب الرئيس. ومعروف أن الطاقم المسؤول عن الدبلوماسية يتابع التفاصيل والمفاوضات ويجري الاتصالات، ولكن في النهاية ماكرون وحده صاحب القرار. كان ذلك في جميع العهود الرئاسية وتعزز بشخصية ماكرون التي سُميت في الأوساط الفرنسية بـjupiter جوبيتر.
ترك إيمييه منصبه الذي أنجز الكثير فيه لا يعني أن سياسة فرنسا في لبنان ستتغير، ولإيمييه بعد سنتان من الخدمة قبل التقاعد، وكفاءته ترجح عدم استبعاد حصوله على مسؤولية عليا أخرى، خصوصاً أنه التقى مراراً كبار قادة المنطقة كولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد ورئيس الإمارات الشيخ محمد بن زايد، كما أنه يعرف معظم مسؤولي شمال أفريقيا والملك عبد الله في الأردن.
النهار العربي