في السادس عشر من أغسطس/آب، أعلنت الحكومة السورية عن زيادة بنسبة 100 في المئة في رواتب موظفي القطاع العام، تزامناً مع رفع الدعم عن الوقود، الذي ارتفعت أسعاره بنسبة تقارب 200 في المئة، وهو ما وصف أنه مزق اقتصاد البلد الذي أرهقته الحرب المستمرة منذ ما يزيد عن عقد.
وبررت الحكومة السورية القرار بأنه محاولة لدعم الاقتصاد المحلي، خاصة وأن سعر الليرة السورية في انهيار متواصل، إذ وصل سعر الدولار الأميركي إلى 15 ألف ليرة سورية، في حين كان الدولار يعادل 47 ليرة سورية في بداية الحرب.
أشعل هذا القرار فتيل الاحتجاجات والتظاهرات في مدن عدة تحت سيطرة النظام السوري، إذ خرج عشرات السوريين للاحتجاج في عدة محافظات بدءاً من درعا وحمص وامتدت إلى حلب حتى وصلت السويداء جنوباً.
وكان لمدينة السويداء ذات الغالبية الدرزية (طائفة الموحدين)، الحصة الأكبر من الاحتجاجات التي تميزت بكونها الأكثر استمرارية وتنظيماً عن غيرها من المدن السورية، إذ تتواصل بشكل يومي منذ صدور قرارات الحكومة التي زادت من سوء الأوضاع المعيشية للسوريين الذين يعانون تبعات الحرب أصلاً.
“نحلم بدولة مواطنة وقانون وعدل ومساواة”
“سوريا لينا وما هي لبيت الأسد”، واحدة من عشرات الشعارات التي يواصل متظاهرون سوريون في ساحة الكرامة في مدينة السويداء، رفعها منذ 20 أغسطس/آب.
ويردد المحتجون شعارات تطالب برحيل النظام السوري بكافة رموزه، بدءاً من الرئيس بشار الأسد، وكل من يواليه ويتبعه، ويقومون بتحطيم وتمزيق أي لوحات أو تماثيل تحمل أو تُجسد الرئيس الأسد أو والده حافظ، الموجودة على مبانٍ حكومية أو المنصوبة في ساحات المحافظة، كما تمكن المتظاهرون من إغلاق جميع الفروع التابعة لحزب البعث الحاكم في أنحاء المحافظة.
وتتمحور الشعارات التي تتردد على ألسنة المتظاهرين في ساحات الاحتجاجات في أنحاء مدينة السويداء، حول إسقاط النظام، وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي ينص على البدء بعملية انتقال سياسي في سوريا تهدف إلى تسوية سياسية دائمة للأزمة التي اشتعلت في عام 2012 للمطالبة برحيل النظام
تقول راقية الشاعر، الشابة السورية من محافظة السويداء والتي تشارك في التظاهرات بشكل منتظم منذ بدايتها، إن الخروج للتظاهر في الوقت الحالي ليس لسبب واحد، وإنما أسباب عدة، فهي اسباب تراكمت على مدار السنوات الماضية.
“آخر ما وصلنا إليه هو عدم قدرتنا على منح هذا النظام الحاكم فرصة أخرى، بعد أن استنفد جميع فرصه الممكنة”، تقول راقية. وتضيف عن مطالبهم من هذه الاحتجاجات: “أطالب بالعيش بدولة مواطنة، قانون، عدل، حقوق ومساواة، وذلك يستحيل أن يتحقق بوجود النظام الحاكم الحالي، أحلم بالأمان من أجل أولادنا، وأحلم بأن يتم توزيع خيرات سوريا عل ى مواطنيها بالتساوي.
وتؤكد راقية، التي تم فصلها من وظيفتها كمهندسة زراعية تعمل في الحكومة السورية، تبعاً لمشاركتها في تظاهرات مناهضة للنظام، استمرارهم في التظاهر دون عودة للوراء.
عرقلة عمل الدولة لتحسين ظروف الحياة المعيشية
لم يصدر عن الحكومة السورية أي تعليق رسمي حتى الآن بخصوص موقفها من التظاهرات المناهضة للنظام، إلا أنه وبحسب الناشطين المنظمين للتظاهرات في السويداء، فإن السلطات تتعامل بتجاهل رسمي وعدم تدخل بشكل مباشر، ولكنها قامت بإرسال وفود عدة ممثلة بمحافظ مدينة السويداء إلى شيخ العقل في المدينة، حكمت الهجري.
وحمل الوفد التابع للحكومة قائمة بالمتطلبات التي سيتم تحقيقها لأهل المحافظة أملاً في أن يهدئ ذلك من غضب المحتجين في الشارع، ولكن وبحسب راقية، فقد تم رفض هذه القائمة، لأن “مطالب تظاهرات السويداء تخص سوريا كلها، وليست للسويداء فقط”.
أما عمار وقاف، مدير مؤسسة غونوسوس للأبحاث في لندن، المختصة في الشؤون السورية والشرق أوسطية، يقول لبي بي سي، إنه على عكس ما قد يدعيه البعض من عدم اهتمام السلطات في سوريا بما يحدث في السويداء، إلا أنها “لن تتعاطى مع هذه التظاهرات دون حساب”.
ويؤكد عمار أنه “لا يوجد ما يشير إلى أن الحركة في السويداء ستتحول إلى أعمال عسكرية أو تجييش أو حركة تكفيرية، لذلك لا قلق أو خوف من هذه التحركات”، ويضيف: ” الحكومة ترى أنها يجب أن تسمح للمتظاهرين بالخروج إلى الشوارع والتعبير عن نفسهم ومنحهم هذه الحرية، ولكن ذلك لن يستمر من قبل المتظاهرين أنفسهم لأنهم سيرون أنها تعيق الحياة اليومية والموظفين عن خدمة الناس”.
وبحسب عمار، فإن لا “علاقة مباشرة” لرفع الرواتب ولرفع الدعم عن المحروقات بخروج هذه التظاهرات، “فهناك شعور بالاستياء العام في الأوساط السورية من الأوضاع المعيشية”، ويتسأل عمار “ولكن هل الخروج في تظاهرات سيحسن من هذه الأوضاع؟“.
“علينا أن نترك الدولة تعمل.. وأي محاولة لعرقلة عمل الدولة لتحسين حياة الناس فلن يفيد أحد” يقول عمار وقاف.
“النظام يعاقب السويداء”
تميزت مدينة السويداء بمواقفها شبه المحايدة من الأحداث التي شهدتها سوريا منذ عام 2012. إذ حاولت المحافظة وغالبيتها الدرزية، ممثلين بقيادتهم الدينية “شيوخ العقل”، المحافظة على موقفهم المحايد من النظام السوري، في محاولة للمحافظة على وجودهم فيها، باعتبارهم أقلية دينية، مع النأي بالنفس عن وقوع أي اشتباكات مسلح ة في مناطقهم.
وامتنع شبان الطائفة، عن الخدمة في الجيش السوري، ولعل هذا من أبرز المواقف التي صدرت عن الأقلية الدرزية السورية التي تشكل ثلاثة في المئة من سكان البلاد.
ويعزو الدروز هذا الموقف إلى مبدأ “دم السوري على السوري حرام”، كما امتنعوا عن الانضمام للمعارضة إلا فيما حالات نادرة وفردية.
وترى راقية أن سكان المحافظة بدأ يتشكل في ذهنهم اعتقاد بأن النظام السوري يقوم “بمعاقبة” السويداء وأبناءها لامتناعهم عن الانضمام للجيش، وذلك عن طريق إجبارهم على دفع الثمن بالحصار الاقتصادي والسياسي، كما يحذر النظام السوري دائماً من اقتراب عناصر تابعة لما يعرف بتنظيم الدولة الإسلامية للمحافظة، وهو ما تعتبره راقية “بأنه الفزاعة التي تستخدم لتخويف المتظاهرين في كل مرة يشعر النظام بأنهم سيخرجون فيها عن سيطرته” ظناً منه أن ذلك سيبقي الشعب تحت مظلته.
“النظام السوري حامي الأقليات”
ترويج النظام السوري لنفسه على أنه يسعى لحماية الأقليات الدينية في وجه التطرف والإرهاب، هو واحد من الأسباب التي دفعت السلطات السورية للمحافظة على علاقتها بالأقلية الدرزية في البلاد كما هو الحال مع باقي الأقليات الدينية، كما سمح للسويداء وسكانها بالامتناع عن الخدمة في الجيش، وفق رأي بعض من أهالي السويداء الذين تحدثت معهم بي بي سي.
وساعد ذلك محافظة السويداء بأن تنجو من “حمام الدم” الذي أصاب باقي السوريين بشكل شبه كلي، كما أن طريقة تعامل السلطات مع التظاهرات التي تخرج في المدينة اختلفت عما كانت عليه في باقي المدن، إذ إن التظاهرات الحالية ليست الوحيدة أو الأولى من نوعها التي تخرج في المدينة.
ففي مطلع عام 2020، شارك المئات من سكان المدينة في تظاهرات تنادي بإسقاط النظام، لكنها لم تشهد تصعيداً بسبب وساطات من وجهاء المحافظة. وتكررت هذه الاحتجاجات بشكل متفرق على مدار العامين الماضيين، إلا أن الاحتجاجات التي خرجت مؤخراً تبدو الأكبر حجماً ويبدو المشاركون فيها أكثر إصراراً من المرات السابقة.
هل يستعمل النظام الحل العسكري في السويداء؟
يقول ماهر شرف الدين، المفكر السوري، وهو ابن مدينة السويداء، كما يحب أن يعرف عن نفسه، إن خصوصية الحراك في السويداء تتأتى من خصوصية تاريخية ودينية. “الخصوصية الدينية تنبع من كون السويداء هي معقل للطائفة الدرزية، بمعنى أن الحراك هذه المرة هو حراك أقليات وليس حراك أكثرية سنّية، وهذا من شأنه أن يُربك رواية النظام الذي يحتمي خلف شعار حماية الأقليات”.
أما عن خصوصية السويداء التاريخية، فيؤكد شرف الدين، أن مدينته مهد واحدة من أكبر ثورات بلاد الشام، وهي الثورة السورية الكبرى، والتي انطلقت من جبل العرب في السويداء بقيادة سلطان باشا الأطرش ابن المدينة وابن الطائفة الدرزية، ويضيف شرف الدين، أن “الثورات المتلاحقة ضد العثمانيين والثورة ضد إبراهيم باشا المصري، وحتى الثورة الفرنسية، كان مهدها جميعاً من مدينة السويداء جنوبي سوريا، وهو ما سيدفع النظام لحساب أي خطوة يمكن أن يقوم بها قبل الإقدام على أي تحرك عنيف ضد المدينة وأبناءها
ولطالما تعتبر وحدة الصف في أوساط الدروز أياً كان مكان سكنهم؛ في سوريا، لبنان، الجولان المحتل أو داخل إسرائيل، واحدة من مميزات هذه الأقلية الدينية. ويقول شرف الدين: “هناك تشبيه قديم عن علاقة الدروز ببعضهم البعض، وهو أنهم مثل “سدر النحاس” أينما طرقته يرن”، ما يعني أنهم يتفاعلون مع بعضهم البعض في حالة قيام ثورة أو حراك بينهم.
كما أن قضايا المجتمع الدرزي مشتركة، إذ تتمثل بشكل رئيسي في النضال من أجل الأرض والكرامة والهوية، وهو ما يحاول قادة المجتمع الدرزي الدينيين الحفاظ عليه.
وفي حين اكتفى الآلاف من الشبّان الدروز السوريين خلال السنوات الماضية بحمل السلاح دفاعاً عن مناطقهم فقط، دون الانضمام للجيش، فإن المخاوف من ح دوث تدخل عسكري من قبل النظام في المدينة موجود، ولكنه مستبعد.
فيقول شرف الدين إن النظام “لن يجرؤ على فعل ذلك، لأن أُولى نتائج هذا الحل هو تجريده من علَّة وجوده وهي حماية الأقليات. كما أن التاريخ الحربي للدروز سيدفعه للتريُّث كثيراً قبل اتخاذ هكذا خطوة
بي.بي.سي