لا يليق السؤالان اللذان وجههما جان إيف لودريان الى النواب اللبنانيّين، بسيرته المهنية في الحياة السياسية الفرنسية عمومًا، وفي وزارتي الدفاع والخارجية خصوصًا.
هذا السؤالان اللذان حملهما الكتاب المرسل من الموفد الشخصي للرئيس الفرنسي، كان يمكن أن يصلحا، في الزيارة الأولى التي قام بها بهذه الصفة الى بيروت، ولكن أن يُطرحا، بعد شهر تقريبًا على انتهاء ثاني زيارة له وفي إطار تحضير للزيارة الثالثة في أيلول/ سبتمبر المقبل، فهذا يؤشّر الى أنّه أعلن فشلًا مسبقًا لمهمّته!
سأل لودريان “النوّاب الناخبين”، إذ قدّر عددهم بثمان وثلاثين نائبًا من أصل 128 نائبًا الآتي:
أوّلًا: ما هي، بالنسبة إلى فريقكم السي اسي، المشاريع ذات الأولوية المتعلّقة بولاية رئيس الجمهورية خلال السنوات الستة المقبلة؟
ثانيًا: ما هي الصفات والكفاءات التي يجدر برئيس الجمهورية المستقبلي التحلّي بها؟
لماذا “أضحك” هذان السؤالان الكثيرين في لبنان أو المهتمين بالشأن اللبناني؟ الأسباب كثيرة، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، أنّ المشكلة الجوهريّة التي تمنع انتخاب رئيس للجمهورية منذ انتهاء ولاية ميشال عون في الحادي والثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تكمن في “تنازع” الفرقاء السياسيّين حول النقاط التي يستفتي لودريان النواب الناخبين حولها، للمرة الثالثة على التوالي.
وينقسم اللبنانيون الى فريقين كبيرين: الأوّل يدور حول طرح “الثنائي الشيعي” الذي يريد رئيسًا للجمهوريّة “يحمي ظهر المقاومة”، والثاني يعارض هذا الطرح ويريد رئيسًا للجمهوريّة يحمي ظهر لبنان من “المقاومة”.
وهذان خطّان استراتيجيّان يستحيل التوفيق بينهما!
والغريب في سؤالي لودريان أنّهما يأتيان، بعد ما أعطى بيان الدول الخمسة التي اجتمعت في الدوحة قبل شهر، دفعًا قويًّا للقوى المناوئة ل”حزب الله”، بحيث وضعت للرئيس وفريقه وللحكومة ومكوناتها مواصفات ومهامًا سيادية واقتصادية واضحة.
ولن يجد لودريان في أجوبة النواب قواسم مشتركة يقيم على أساسها الحوار المنشود في لبنان.
وكان جميع المتخصصين بالشأن اللبناني يعتقدون بأنّ لودريان سوف ينتهي الى تقديم خلاصة، في ضوء زيارتيه السابقتين الى لبنان، يظهر فيها الإنقسام اللبناني الكبير، ويقدّم في ضوئها اقتراحات “وسطية” يتم التحاور في شأنها، مستفيدًا بذلك من الدعم العربي والدولي لمهمّته والإستعدادات التي أبداها الجميع لاتخاذ تدابير بحق معطلي العملية السياسية في لبنان! وإذا كان سؤالا لودريان قد أعادا أزمة انتخابات رئيس الجمهورية في لبنان الى “نقطة الصفر”، فإنّه بذلك يكون قد أفسح في المجال أمام الخيارين اللذين يتزاحمان في لبنان: الأول، “تفاهم” رئاسي يُعمل عليه بين “حزب الله” من جهة و”التيار الوطني الحر” من جهة أخرى. أمّا الثاني، فيتمثّل بمحاولة تشكيل جبهة معارضة ل”حزب الله” عريضة وجدت زخمها في حيثيات وتداعيات انقلاب شاحنة الأسلحة في الكحالة قبل أسبوع وتلقت دعمًا معنويًّا من المملكة العربية السعودية، وفق ما عبّرت عنه افتتاحية صحيفة “الرياض” في عددها الصادر يوم أمس الأربعاء.
وثمّة من يعتقد بأنّ تراجع لودريان الى “نقطة الصفر”، وفق ما بيّن كتابه الى “النوّاب الناخبين”، يعود الى رغبة فرنسية عليا بعدم السير بهدي ما تريده ” اللجنة الخماسية” التي تضم الى فرنسا كلًّا من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، حتى لا تُغضب “الثنائي الشيعي” عمومًا و”حزب الله” خصوصًا، إذ إنّ رؤيتها لمستقبل لبنان يتمحور حول نقطتين يلعب فيهما “حزب الله” دروًا رئيسيًّا: الغاز الذي يمكن أن تبيّنه عمليات الحفر الوشيكة في البلوك رقم 9 ، وسلامة الوحدة الفرنسية العاملة في إطار اليونيفيل في جنوب لبنان، في ضوء التوقعات بعدم تراجع مجلس الأمن الدولي عن قراره السابق بإعطاء حريّة الحركة لهذه القوة الدولية.
وتتحرّك فرنسا في لبنان، هذه الأيّام بوهن إضافي أصابها مع الإنقلاب الذي حصل ضد نفوذها في النيجر، فهي إذ تكاد تخرج نهائيًا من إفريقيا، تحت ضربات “عسكر روسيا”، لا تنوي الخروج نهائيًّا أيضًا من الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط ، حيث يشكل لبنان واحدًا من آخر معاقلها، تحت ضربات “عسكر إيران”.
وما سبق لفرنسا أن نصحت به القوى السياسيّة اللبنانيّة تعتمده هي: “حزب الله” أمر واقع، ولا بدّ من التعامل معه على أساس ما لديه من قوة سياسية محمية بشعبية شيعي ة واسعة، من جهة وما يملكه من قوة مسلّحة محمية بإرادة عدم الوقوع في جحيم حرب أهلية، من جهة أخرى.
وبناء عليه، فإنّ مهمّة لودريان الرئاسية تواجه مخاطر جدية، فمن لا يستطيع الإنتقال من طرح السؤالين ذاتهما بعد جولتين الى تقديم الأجوبة، لا يستطيع في الجولة الثالثة أن يقدّم أيّ حل!