تقول الرواية الشفوية في استراليا إنّ عددًا من اللبنانيّين وصلوا إليها في القرن الثامن عشر، من ضمن المحكوم عليهم الذين كانت تنفيهم السلطات البريطانية الى الأرض التي اكتشفها القبطان جايمس كوك.
ولكنّ السجلات الرسميّة تُعيد بدء توافد “السوريّين الأتراك”- هكذا كان تعريفهم الرسمي- من جبل لبنان الذي كان جزءًا من الأمبراطوريّة العثمانية الى الثمانينات من القرن التاسع عشر.
وكان واضحًا أنّ المهاجرين اللبنانيّين الجدد الى “الأرض الجديدة” التي قرّر المستعمرون البريطانيّون بناءها وعدم إبقائها مجرّد منفى بعيد للمحكوم عليهم الذين تعرضوا لمواجهة شديدة من السكّان الأصليّين بشتّى قبائلهم، استدعوا ذويهم ومعارفهم واختاروا لهم، كمقر تجمّع، قطعة أرض كبيرة في بلدة “ردفرن” في سيدني، حيث كانوا يفترشون العراء، على الرغم من تقلبّات الطقس الحادة، لينطلقوا في حياتهم بعد توزيعهم على المهن التي يمكن أن يفلحوا فيها.
وتبيّن السجلّات أنّه مع حلول العام 1892 أصبحت بلدة “ردفرن” تجمعًا كبيرًا جدًّا للبنانيّين.
وقد تحوّلت، اليوم النقطة التي كان يتم تجميع الوافدين الجدد فيها الى حديقة عامة كبيرة تجاور أوّل كنيستين لبنانيّتين بنتاها الجاليتان الأرثوذكسيّة والمارونية اللبنانيّتان في سيدني: مار مارون ومار جرجس.
ومار جرجس كانت أوّل كنيسة لبنانيّة في سيدني، ولكن مار مارون كانت أوّل مقر ديني للمهاجرين الموارنة قبل أن تنشئ كنيسة، وفق الهندسة المعتمدة.
ولم يكن في الفترة التي امتدّت من بدء الهجرة اللبنانية حتى نيل لبنان استقلاله، يُشار الى اللبنانيّين بهويّتهم الوطنية بل بانتماءاتهم الطائفيّة، إذ إنّ الإنتماء الديني كان بديلهم لعدم قبول غالبيّة اللبنانيّين المهاجرين بالصفة السوريّة أو التركيّة.
وتعتبر الهجرة الإسلامية الى استراليا حديثة نسبيًّا بالمقارنة مع الهجرة المسيحيّة، لأنّ سياسة الدولة كانت ضد التنوّع الديني لفترة طويلة نسبيًّا، وقد ترافقت مع وضع قيود صارمة ضد الهجرة الآسيوية بسبب القلق من وفرة الصينيّين الراغبين بترك دولتهم!
ولا يزال التقسيم الطائفي الذي زادته ضراوة الحرب الأهليّة التي عرفها لبنان بين العامين 1975 و1990، مع موجات الهجرة الناشئة عنها، ظاهرة للعيان في عموم استراليا، إذ إنّ المسلمين اللبنانيّين عمومًا يعيشون في بلدات مختلفة عن تلك التي تتوزّع فيها الأكثريّة المسيحيّة.
ومن تسنح له فرصة التجوّل خارج الأماكن السياحيّة في كبريات المدن الأستراليّة ولا سيما في سيدني وملبورن، يكتشف ذلك بسهولة. وهذه ميزة وفّرتها لي، خلال إقامتي في سيدني، المديرة السابقة للقسم العربي في إذاعة أس. بي. أس الإعلامية المعروفة في استراليا ماري ميسي.
ويبدو واضحًا أنّ أبناء الطائفتين يوسمون الحدائق الأمامية لمنازلهم، قبل بلداتهم، بهويّتهم الدينيّة ورموزها!
وإذا كانت الدولة الاسترالية علمانيّة، إلّا أنّها، وخلافًا لفرنسا، لا تحارب المظاهر الدينيّة، بل تقبل بها وتحميها، الامر الذي يتجلّى في أزياء وحلى المواطنين، ولا سيّما منهم أبناء العالم الثالث!
ويعاني “شعبا” الجالية اللبنانيّة في استراليا من سلوك بعض أبنائهما، إذ يشكل هؤلاء عصابات بينما يتورّط غيرهم، ولا سيّما في طبقة رجال الأعمال، في قضايا فساد دفعت بكبارهم الى الفرار من البلاد الى وطنهم الأم: لبنان!
ولا تستحق الجالية اللبنانية هذه الإنحرافات التي تغذي انقساماتها الطائفية سوء سمعتها، لأنّ اللبنانيّين الذين كانوا قد وفدوا إليها جهدوا كثيرًا لأخذ مكانتهم في استراليا، حين كانت لا تزال مصابة بالطبقية والعرقية الحادّتين.
وخلافًا لنوعيّة المهاجرين الى أوروبا التي قصدوها لتحصيل العلم، فإنّ غالبية من هاجروا إلى استراليا قصدوها للعمل، فالتّجار كانوا جوّالين، والعمّال كانوا بنّاءين أو صناعيّين.
وفي هذه الظروف القاسيّة، بنوا حياتهم ووفّروا لأبنائهم عيشة أفضل، وأوصلوا حاليًا جيلًا معلّمًا بدأ يأخذ مكانًا مهمًّا في مواقع التأثير في القرار الأسترالي سواء كان س ياسيًّا أو علميًّا أو ماليًا أو إقتصاديًّا أو إعلاميًّا.
ولكن ماذا يمكن قوله عن علاقة هؤلاء بلبنان وكيف ينظرون فعلًا إليه؟
(يتبع)
نشر في “النّهار العربي”