أمضيتُ في اوستراليا، وتحديدًا في سيدني وملبورن خمسة أسابيع إنتهت، أمس الخميس.
لم تكن رحلتي هذه مهنيّة ولم تكن سياحيّة كذلك. كانت في الو اقع رحلة وجدانيّة فيها الكثير من الرومانسيّة، وتاليا كانت أكثر أهميّة من المعطى المهني وأوفر عمقًا من المعطى السياحي.
ذلك أنّنا نحن اللبنانيّين، ولا سيّما أبناء الشمال نسمع باستراليا، منذ تشكل وعينا الإدراكي، لأنّ الكثيرين من أهلنا توجّهوا إليها، تباعًا، وفي موجات هجرة متعددة تكاد لا تنتهي، منذ القرن التاسع عشر.
في منازلنا سمعنا الكثير عن هذه البلاد البعيدة، وكان جميع من يزوروننا منها يخبروننا، في إجماع قلّ نظيره، عن “خيرها الوفير” عليهم وعلى عائلاتهم وعلى جميع من يقصدها ويعمل فيها.
لم أذكر أنّ واحدًا من هؤلاء، حتى قبل “الإنهيار الكبير”، وهو يقارن بين ما كانت عليه حالنا في لبنان وما كانت عليه حاله في “المقلب الثاني” من كوكبنا، أبدى ندمًا لأنّه هاجر وترك “أرض الأجداد”!
ولم أكن أصدّق هؤلاء كليًّا. كنتُ أظنّ أنّ الهجرة “موت مبكر”، فهي تبعدك عن كل من تحب وعن كل ما به تعلّقت، وعن وطن يقاتل من أجل أن يبقى على الخارطة، متجاوزًا مؤامرات الأقربين ومخاطر الأبعدين!
ولم يكن عدم تصديقي لهؤلاء نابعًا من رأي أو عاطفة، بل كنتُ أستند الى كثير من الأدلة التي يقدّمونها من دون أن يدركوا ذلك، إذ بدوا في يومياتهم اللبنانيّة كالسمكة التي تعيدها الى الماء قبيل الإختناق، فحياتنا الإجتماعيّة، على الرغم من بحبوحة متواضعة، كانت تبهرهم، إذ كانوا دائمًا أوّل من يحضر الى مائدة أو “جمعة” أو حفلة أو “لعبة ورق” وآخر من يغادر. والأهم أنّهم جميعهم يريدون أن يتزوّج أبناؤهم وبناتهم من لبنانيّين ولبنانيّات ولذلك يأتون بهم من البعيد البعيد الى “بلاد الأرز”، لعلّ! وعسى!
على أيّ حال، ومهما كانت عليه الفوارق بين اللسان والسلوك، فإنّ أستراليا كانت بالنسبة لي “وطنًا سريًّا”، إنتميتُ إليه بالقصص والروايات!
وعلى الرغم من هذا الشعور العميق، لم أتمكّن من زيارتها. كان في ظنّي أنّه مكتوب على من يدوس أرضها أن يبقى فيها، لا أن يتفقّدها ويغادر.
ولكنّ الفرصة سنحت لي أخيرًا حتى أزورها بحيث أكون برفقة أحبّ أقربائي. لم أتردد لحظة واحدة حين تمّ عرض الموضوع عليّ، بل اندفعت، بعاطفة، إلى الموافقة، لأنّ قدمَي ستطآن أخيرًا “وطني الخيالي”!
طوال الساعات الأربع والعشرين التي استغرقها انتقالي من بيروت و”عذابات” الخروج من مطارها الى سيدني عبر دبي، لم يفارقني السؤال عن أجدادنا الذين كانوا يهاجرون إليها، قبل حلول زمن الطائرة، إذ إنّنا، وفي ظلّ التقدّم المذهل في عالم الطيران، سرعة وراحة وخدمات، نتكبّد مشقّات هائلة للوصول إلى “آخر الدنيا” أو إلى ما يصف به الأستراليون بلادهم “الجزء السفلي” ( داون أندر)، فماذا عنهم هم، إذ كانوا يتركون قراهم على متن بواخر “خطرة”، طالما غرق بعضها وتاه بعضها الآخر؟
في الطائرة، وأنا أحاول قتل الوقت الذي لا ينتهي، لم أفكر فقط بفقر هؤلاء الذين اندفعوا بلا تردد الى ركب غمار البحر لأسابيع وأسابيع، بظروف قاسيّة، بل كنتُ مأخوذًا بروح المغامرة التي كانت تغمرهم وتدفع بهم إلى بلاد لا منازل لهم فيها ولا احتياطات ماليّة تسمح لهم باستئجار بعضها أو استعمال نزل ولو متواضع.
عند وصولي الى أستراليا، وبعدما استعدتُ نشاطي في استقبال مريح وفي عشاء وفير وفي سرير وثير، تركّز جهدي على الإستحصال عن إجابة عن سؤال كوّنته ساعات الرحلة الأربع والعشرين: أين كان يسكن أوائل المهاجرين الى أستراليا، وكيف كانوا يتدبّرون أمورهم؟
( يتبع)