منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، خسر لبنان أسمى ما يميّز أيّ دولة: السيادة! إنّها مأساة الإستباحة المستمرة التي تركت ندوبها الكارثية على كل شيء، وجعلتها وقودًا في حروب لا تنتهي. لم يسلم شيء في لبنان من هذه الإستباحة، لا الأرض، ولا الشعب، ولا الاقتصاد، ولا الدستور ولا الوحدة الوطنية ولا …الأحلام. منذ ما يزيد عن نصف قرن يستخدم هذا البلد الصغير ساحة لتصفية الحسابات ويستباح كصندوق بريد مفتوح لتبادل الرسائل الإقليمية العنيفة، ويستعمل متراسا لهذا البلد او ذاك. وعلى مدى كل هذه الفترة يدفع اللبنانيون، من دون توقف ثمن هذا الوضع الشاذ، قتلًا وتهجيرًا وافقارًا وتشرذمًا.
مفتاح جهنّم
مفتاح باب جهنم صُنع في ذاك اليوم الأسود الذي تقرر فيه تحويل لبنان الى المقر المركزي للعمل المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل، إثر هزيمة ١٩٦٧ المدوية، وطرد المنظمات الفلسطينية من الأردن في أيلول ١٩٧٠. وتحت ضغط هذا التمدد الفلسطيني انفجر لبنان من الداخل في العام ١٩٧٥ في حروب طويلة بين مكوناته الاجتماعية والطائفية فيما أدت استباحة حدوده الجنوبية الى اجتياح إسرائيل لجنوب البلاد حتى نهر الليطاني في العام ١٩٧٨. كان قد سبق هذا الاجتياح دخول الجيش السوري الى لبنان وسيطرته على أجزاء كبيرة من البلاد ومن ضمنها مدنه الكبرى بما فيها العاصمة بيروت بحجة وضع حدّ للحرب وتقليم اظافر منظمة التحرير. أسفر ذلك عن نوع من تقاسم النفوذ في لبنان بين النظام السوري ومنظمة التحرير التي ازدادت قوتها فيه لتصبح بمثابة دويلة ضمن الدولة ما سمح لها بتطوير ومواصلة استهدافها العسكري لإسرائيل عبر حدود لبنان الجنوبية. النتيجة كانت اجتياحًا إسرائيليًّا واسعًا للبنان في العام ١٩٨٢ وصل حتى احتلال العاصمة. خلال تلك الفترة تقلصت سلطة الدولة المركزية لحدودها الدنيا لتنحصر في مناطق محدودة فيما خسرت أي نوع من السلطة على كامل حدودها وخسرت معها كامل قدرتها على اتخاذ القرارات السيادية.
ايران على الخط
وإثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلال أجزاء واسعة من البلاد، انطلقت أعمال المقاومة اللبنانية المسلحة ضد القوات الغازية وشكلت جزءا من تشكيلات المقاومة خلايا عرفت باسم المقاومة الإسلامية في لبنان لتكون نواة لحزب جديد اطلق عليه اسم حزب الله الذي عمل على تأسيسه، انطلاقا من مدينة بعلبك اللبنانية، فريق من مستشاري الحرس الثوري الإيراني أرسل على عجل لهذه الغاية بعد أيام من بداية الاجتياح بتوجيه مباشر من المرشد روح الله الخميني وبموافقة قيادة النظام السوري. وضعت إيران لإنجاح مشروع انشاء حزب الله موارد مهمة تنوعت بين المال والسلاح والتدريب والتعبئة الأيديولوجية الدينية وتقنيات الدعاية السياسية والحربية، سرعان ما ترجمت نفسها اختراقا للجسم الشعبي الشيعي الذي كان حتى ذلك الوقت حكرًا على حركة امل، وترجمت أيضا بفاعلية واضحة في نوعية الهجمات على مواقع الجيش الإسرائيلي ميزته بشكل واضح عن باقي فصائل المقاومة. وبعدما انحصر الاحتلال الإسرائيلي بالجنوب اللبناني ذي الأغلبية الشيعية، احتكر حزب الله وحده راية المقاومة، وقد ساعدته على ذلك الهزيمة العسكرية التي الحقها الحزب بحركة امل منافسته الأساسية على الساحة الشيعية.
أتى اتفاق الطائف لينهي الحروب الداخلية بين مختلف الميليشيات اللبنانية لكن بنتيجته وضع لبنان تحت الوصاية السورية في كل ما يتعلق بالمواضيع السيادية. هكذا فُكّكت كافة الميليشيات اللبنانية وجُرّدت من سلاحها باستثناء حزب الله الذي أُبقي على سلاحه بحجة التحرير وخدمة لأهداف سوريا وإيران في إدارة علاقاتهما مع الغرب وبالتحديد الولايات المتحدة.
حلم رفيق الحريري!
انطلق بعد اتفاق الطائف مشروع ضخم لإعادة اعمار لبنان وتحديث بنيته التحتية وتطوير اقتصاده. قاد هذا المشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري متوهمًا بأنّ اكتساب مناعة اقتصادية وبناء إدارات الدولة سوف يؤديان في نهاية المطاف الى استعادة السيادة من السوريين والى اقفال الجبهة مع إسرائيل، بعد ارغامها على ذلك، بمزيج من المقاومة المسلحة والدبلوماسية الناشطة. في هذا المجال وخلال التسعينات، صدّ النظام السوري كافة المحاولات الخجولة للدولة اللبنانية، ومنها اجهاضه قرارها القاضي بإرسال الجيش اللبناني الى الجنوب البلاد لتبريد الجبهة تمهيدًا لانسحاب إسرائيلي كان هناك شبه اتفاق عليه.
سقطت كافة محاولات الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بالطرق الدبلوماسية أكان باتفاق شامل مع سوريا يكون الجولان من ضمن ه أم بتفاهم محدود على ذلك مع الدولة اللبنانية، فاتّخذ ايهودا باراك رئيس حكومة إسرائيل قراره بالانسحاب الأحادي في ربيع سنة الفين تنفيذًا لوعده الانتخابي، بالإضافة لاعتقاده بأنّه بتنفيذ الانسحاب الكامل سوف يتمكن من سحب ورقة الجبهة اللبنانية مع إسرائيل من الايادي الإيرانية والسورية. ولكن، عُثر سريعًا على حجة مزارع شبعا للإبقاء على سلاح حزب الله وبذلك بدأت تتكشف أهداف الاستثمار الإيراني الكثيف في هذا التنظيم ألا، وهو تحويل لبنان الى متراس إيراني متقدم على البحر المتوسط وعلى حدود إسرائيل، واستخدام هذا البلد كقاعدة أساسية في صراع إيران مع الغرب.
من التحرير الى…المقايضة
في المقابل شجّع الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بعض القوى السياسية اللبنانية على وضع مسألة السلاح غير الشرعي ومواصلة سوريا احتلالها للبلاد والتحكم بقراراته الاستراتيجية، على طاولة النقاش. ووصل الرئيس رفيق الحريري الى خلاصة اثبتتها مرارة التجارب السابقة مفادها انّ إعادة الاعمار وبناء الاقتصاد وتعزيز مؤسسات الدولة ليست كلها الا عبارة عن قصور من الرمل ما لم تتوفر لها حصانة الدولة ذات السيادة الكاملة. وعلى هذا الأساس قاد الحريري لهذه الغاية جبهتين موازيتين شديدتي الحساسية عمل فيها، بالأولى على رفع الوصاية السورية عن البلاد، وسعى في الجبهة الثانية الى تحويل حزب الله الى حزب لبناني سياسي عبر حلّ جناحه العسكري بعد انتهاء مهمته التحريرية. مثّل ذلك تجاوزا لكل الخطوط الحمراء وتهديدا استراتيجيا لمشروع التمكين الإيراني في لبنان وللقضم التدريجي السوري لهذا البلد وجاء الردّ حاسما بقرار إيراني سوري مشترك للتخلص من الحريري قامت بتنفيذه فرق الموت في حزب الله ظهر ١٤ شباط ٢٠٠٥. دفع النظام السوري الثمن السياسي لهذا الاغتيال فيما استفاد النظام الإيراني الى اقصى الحدود من تبعاته. فقد رفعت الوصاية السورية عن لبنان بانسحاب الجيش السوري من كامل الاراضي اللبنانية، ولكن سرعان ما باشر النظام الإيراني عبر ذراعه اللبنانية بملء الفراغ مستفيدا من غياب السيادة اللبنانية على الحدود الجنوبية واطلاقه لحرب تموز ٢٠٠٦. ومنذ ذلك الحين تسارع نمو هيمنة حزب الله على القرار اللبناني ليتحول هذا البلد لأكبر متراس إيراني في المنطقة ومركزا لإدارة المصالح الإيرانية في الإقليم وبؤرة أساسية لزعزعة استقرار الإقليم وتنسيق التمدد الإيراني فيه ولتصبح الضاحية الجنوبية حيث مركز ثقل حزب الله منذ ما يقرب العامين غرفة عمليات لما سمّي وحدة الساحات لمواجهة إسرائيل.
حل أو فصل جديد؟
في ٨ تشرين الاول ٢٠٢٣ أدخلت إيران، عبر حزب الله، لبنان في أتون وحدة الساحات رغما عن مشيئة الأغلبية الساحقة من اللبنانيين مفتتحة حرب مساندة غزة والتي انقلبت منذ أسابيع قليلة حربا مدمرة على لبنان لم يشهد بضراوتها وفتكها ومآسيها كل تاريخ هذا البلد المليء بالحروب.
هذه الحرب لا تشبه بشيء حرب تموز ٢٠٠٦ لا بأسباب اندلاعها ولا بالأهداف التي يرغب أطرافها في تحقيقها من خلالها ولا بالظروف المحلية والإقليمية والدولية المحيطة بها. هي حرب كما يشير المشهد الإقليمي الاوسع تتجه على الاغلب الى احداث تغييرات جذرية للأوضاع التي كانت سائدة قبلها. فهل تنتهي مثل سابقاتها مجرد محطة من محطات الحروب والفاجعات التي لا نهاية لها واقرارا بالقدر الملعون لهذا البلد ام انّ نتائجها ستؤدي الى وضع لبنان على مسار سياسي يعيد بناء الدولة ومؤسساتها على قاعدة استعادتها لكامل سيادتها وسيطرتها وحدها على حدودها بواسطة قواتها المسلحة ولتنحصر بها دون أي شريك آخر سلطة تطبيق القانون وحماية حياة المواطنين وارزاقهم؟