يشبه الهجوم الإيراني على إسرائيل الأعمال الفنيّة التي تتيح لكل من يتأمّل فيها أن يُسقِط عليها ما يعتمل في نفسه، بحيث يفسّرها على هواه.
مؤيدو إيران وجدوا في عملية “وعد الصادق” خطوة نوعية على طريق نهاية “الكيان المفبرك”، وأعداء إيران رأوا فيها إثباتًا على “نفاق” شعارات “نظام الملالي” عن قدرته على تدمير إسرائيل في دقائق.
ولكنّ الإسقاطات، وإن كانت تساعد على معرفة ما يعتمل في اللا وعي - ولذلك يستعملها المعالجون النفسيّون- إلّا أنّها لا تقدم شرحًا حقيقيًّا للوحة الفنيّة.
وعليه، يحتاج المراقبون لفهم ما أقدمت عليه إيران الى تفكيك خلفية الهجوم الواقعية، وترتيباته، ونتائجه، وتداعياته!
الخلفية!
رفعت طهران، بعد الإستنفار الغربي لمصلحة إسرائيل، إثر هجوم “حماس” على غلاف غزة في السابع من اكتوبر الماضي، شعار “الصبر الإستراتيجي”، بحيث امتنعت عن التدخل مباشرة في “طوفان الأقصى”، على الرغم من بدئها بعملية تجنيد المتطوعين “للسير على طريق القدس”، كما “دوزنت” دخول الفصائل الموالية لها في العراق واليمن ولبنان، في هذه الحرب، بحيث ألزمتها بأن تكون في إطار المساندة فقط.
وعلى الرغم من سقوط 11 مستشارًا لها في ضربات إسرائيلية في سوريا، إلّا أنّ إيران إلتزمت بمعادلة “الصبر الإستراتيجي”، ولكنّ استهداف قنصليتها في دمشق والقضاء على قيادة “فيلق القدس” في لبنان وسوريا وضعها في مواجهة مع قواعدها، بحيث لم يسبق أن عرفت الجمهورية الإسلامية في إيران حملة عليها شنها أعتى الموالين لها، سواء في بلادها أو في الدول التي لها تأثير وازن فيها.
الترتيبات
وضعت ضربة القنصلية القاسية إيران أمام خيارين لا ثالث لهما. ويتمثل الخيار الأول في مواصلة سياسة “الصبر الإستراتيجي” على قاعدة أنّ الأولوية في العالم يجب أن تبقى لغزة، حيث تعاني إسرائيل الأمرّين من غضب الرأي العام العال مي عليها، حتى في أكثر الدول تأييدًا لها، كما هي عليه الحال في الولايات المتحدة الأميركية. أمّا الخيار الثاني فهو الرد على الهجوم بحيث تنقذ إيران صورتها التي هزّتها اتهامات لها بخيانة الفلسطينيين، بعدما أظهرت إسرائيل وثائق بيّنت أنّ قيادة “كتائب القسام” كانت موعودة بأن تتم مؤازرتها بفتح حرب ضد إسرائيل على كل الجبهات، في آن.
وقررت إيران أن تبتدع حلًّا ثالثًا يحتوي على عناصر الخيارين معًا: الرد بطريقة تتناسب مع مواصلة العمل بسياسة “الصبر الإستراتيجي”.
وعليه حبك الإستراتيجيون الإيرانيون “سجادة الهجوم”، بحيث يكون المشهد “مذهلًا مشهديًا” ولكنّه “مسالم ضمنيًا”.
النتائج
وهذا ما حصل. لم تشن إيران هجومها بشكل مفاجئ على إسرائيل. الجميع كان على علم به قبل 72 ساعة. والولايات المتحدة الأميركية كانت متأكدة من “ساعة الصفر”، سواء علمت بذلك عن طريق القنوات المفتوحة بينها وبين إيران، أو عبر وسائلها التجسسية التي كانت قد مكّنتها، في العام 2022، من أن تعرف “ساعة الصفر” التي حددها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لبدء هجومه على أوكرانيا.
ولم تستعمل إيران الأسلحة التي تعينها على إيصال صواريخها البالستية بسرعة الى إسرائيل، بل استعملت الأسل حة التي يمكن انتظارها لساعات، وبالتالي تحاكي قدرة التصدي المتوافرة لدى إسرائيل وحلفائها المعلنين والسريّين!
والاهم من ذلك، أنّ إيران لم تشرك تنظيماتها بقوة في الهجوم، فالصواريخ التي اطلقها “حزب الله” من لبنان نحو الجولان كانت بأعداد يمكن احتواؤها وكذلك ما أطلقه العراقيون.
وهكذا إنتهى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى نتائج يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تحتويها، فقواتها العسكريّة قدمت مشهدًا مذهلًا بالتعاون مع حلفائها ضد 99 بالمائة من الصواريخ والمسيّرات، بحيث لم يصل الى أراضيها أكثر من تسعة صواريخ على أبعد تقدير، ولم تتسبب سوى بخسائر طفيفة في قاعدتها الجوية في النقب، في حين أن الفتاة البدوية التي أصيبت كانت ضحية شظية صاروخ جرى تدميره في الجو.
في الواقع، كان يمكن لإيران أن تهندس هجومًا مختلفًا من شأنه أن يلحق أذى كبيرًا بإسرائيل- وهي تملك الوسائل المباشرة لذلك سواء في ترسانتها أو في مخازن التنظيمات الموالية لها- ولكنّها كانت تدرك أنّ ذلك سيدخلها في حرب مباشرة مع إسرائيل بدعم فوري من حلفائها تتقدمهم الولايات المتحدة الأميركية.
وهذه الحرب لا تريدها إيران، لأنّ خسائرها عليها ستكون أعظم من خسائرها على إسرائيل، إذ قد تودي بنظامها، حيث هناك شعب غاضب وجائع ومقموع، الأمر الذي من شأنه أن يحرمها من “انتصار بالنقاط” لا يزال ممكنًا، بمجرد أن توقف إسرائيل حربها على غزة، من دون أن تمحو “حماس” من الوجود، ومن دون أن تستعيد الرهائن- أحياء أو جثثًا- من دون صفقة!
التداعيات
يرجح كثير من العارفين أنّ إيران كانت تفضل أن تمتنع عن الرد، لأنّ الإضطرار جعلها تختار أسلوبًا أنقذ شرفها ولكنّه زاد من تلطيخ سمعتها السيئة.
بعد الهجوم، بدت نقطة قوة إيران، أي مسيّراتها وصواريخها، أضعف من قدرات الردع الإسرائيلية التي تقوم حاليًا على ثلاثة أنظمة في انتظار النظام الرابع الذي يستند الى التصدي بواسطة أشعة اللايزر.
وبعد هذا الهجوم أيضًا، باتت إسرائيل تملك الحق في الرد داخل الأراضي الإيرانية، في التوقيت الذي يناسبها، وتحديد الهدف الأنسب إليها.
وبنتيجة الهجوم الإيراني، عادت الحماوة الى العلاقات الإسرائيلية- الأميركية، بعد برودة قاربت الخصومة، والأهم توحّد يهود حزبي الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة إسرائيل وقرروا العمل معًأ لتوفير ما يحتاجه الكيان العبري من دعم معنوي ومادي، بحيث طالبوا بفك الحظر على الموافقة على القانون الذي يمنح إسرائيل مساعدة بقيمة 14 مليار ونصف مليار دولار أميركي.
وحصد الجيش الإسرائيلي دفعة جديدة من ثقة غالبية شعبه به وبقدراته، وبدوا مطمئنين الى أنّ فاعلية إيران- أقلّه حت إشعار آخر- أقل من فاعلية “حزب الله” ضد البلدات القريبة من الحدود مع لبنان.
وفي سياق التداعيات، ظهرت لإيران، بشكل واضح، فاعلية تحالف الدفاع الجوي الإقليمي الذي سبق أن عملت عليه الولايات المتحدة الأميركية، بحيث بات لديها “ناتو” خاص بالشرق الأوسط، مما يمكنها من السيطرة التامة على أجوائه.
والأهم من ذلك أنّ إسرائيل أعادت فتح ملف إيران النووي على اعتبار أنّ الهجوم بيّن خطره عليها، إذ يكفي أن يعبر صاروخ واحد يحمل رأسًا نوويًّا حتى تقع الكارثة. ومن شأن فتح هذا الملف أن يضع الإدارة الأميركية أمام خيارين: دعم إسرائيل في منع إيران من مواصلة هذا المسار، أو تولي ذلك بنفسها.
قد يصح ما يقوله مؤيدو إيران من أنّ الهجوم بيّن توافر قدرة إيران على أذية إسرائيل، ولكن الصحيح أكثر أنّ أحدًا لم يسبق له أن شكك بهذه القدرة، على اعتبار أن ذلك متوافر لها من خلال “حلفائها” يتقدمهم “حزب الله”.
في يوم من الأيّام، كان الخيال يمجد “بساط سندباد”. في هذا الزمن لم يعد هذا البساط الطائر يثير إعجاب سوى الأطفال!