في الثاني من كانون الأول الماضي أطلق “حزب الله” صاروخين على مساحة مفتوحة في تلال كفرشوبا وأصدر “بلاغ إنذار”، مؤكداً فيه أنّه لن يسكت على “الخروقات الإسرائيلية المتمادية لوقف إطلاق النار”. وإذ حمّل المراجع الدولية المعنية المسؤولية أنهى بيانه بعبارة “وقد أعذر من أنذر”. يومها ردّت إسرائيل على هذا “التهديد الميداني” بعنف مما أدى الى مقتل 12 لبنانيّاً. وكان لافتاً أنّ “حزب الله”، بعد ذلك، لم يعد يحرّك ساكناً. أبقى على مواقفه التنديدية بالمرجعيات الدولية المعنية، لكنّه أسكت مدافعه، على الرغم من تنامي ما يصفه بالخروق الإسرائيلية التي وصلت إلى حدود ألف “خرق”.
لماذا انتفض “حزب الله” ثم استكان؟
هو يقول إنّه أعطى الدولة اللبنانية ولجنة الرقابة على اتفاق وقف إطلاق النار، ما تحتاج إليه من مهلة، على أن يكون له تحرك آخر، بعد انقضاء المرحلة الأولى من الاتفاق، ومدتها ستون يوماً. حينها “لكل حادث حديث”.
ولكنّ الحقيقة في مكان آخر، فـ”حزب الله” لم يعد يملك القدرة على مواصلة حرب فعّالة ضد إسرائيل، فغالبية بنيته التحتية في جنوبي نهر الليطاني تفككت، وخسر مواقعه على الحدود اللبنانية-السورية حيث كانت لديه مخازن خاصة بالأسلحة الاستراتيجية، وإسرائيل ضربت بعضها والقوى العسكرية السورية المتحالفة مع “هيئة تحرير الشام” سيطرت على بعضها الآخر. وتحديث “بنك الأهداف” في المخابرات الإسرائيلية أدخل مواقع مهمة على امتداد لبنان. والبيئة التي يطلق عليها “حزب الله” صفة “الحاضنة” لم تعد قادرة على مواجهة حرب جديدة ونزوح جديد، وقيادته تفككت، وأصبح فيه مراكز قوى متعددة، بدليل أنّ الأمين العام الجديد للحزب الشيخ نعيم قاسم، لم يعد صاحب الكلمة الوحيدة، فما كان محصوراً سابقاً، لجهة تحديد سقف المطالب، بالراحل حسن نصرالله، وصل حتى إلى وفيق صفا!
انطلاقاً من هذه القراءة لواقع “حزب الله” العسكري والشعبي والتنظيمي، تضغط إسرائيل حتى تتأكد من انعدام قدرة الحزب على إعادة تشكيل نفسه عسكريّاً. أمور كثيرة تأخذها في الاعتبار لتحقيق ذلك، من بينها الانتخابات الرئاسية.
وتراقب إسرائيل عن كثب الاستحقاق الرئاسي، فهي تهدد بالعودة إلى الحرب إذا انتخب مجلس النواب رئيساً للجمهورية “متواطئًا” مع “حزب الله”، بحيث يعينه بالسياسة على تعويض ما خسره بالحرب، ولذلك هي تذكر الجميع بقول رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو، إنّه وافق على اتفاق لوقف إطلاق النار، لا على وقف الحرب.
لم يكن عبثيّاً فتح إسرائيل، قبل ثلاثة أسابيع من انتهاء الستين يوماً، ملف تجديد هذه المهلة، بل يدخل في سياق متكامل.
لا يهمّها ما يقوله قادة “حزب الله” وما يهددون به. بالنسبة إلى إسرائيل، لا شيء يمكن أن يتقدم على إغلاق ملف “حزب الله”، لأنّ المرحلة المقبلة محفوفة بالمخاطر، على اعتبار أنّ هناك ملفين يتقدمان على كل الأولويات الإقليمية: الملف الإيراني الذي توضع اللمسات الأخيرة عليه مع الولايات المتحدة الأميركية، وملف حوثيي اليمن.
وتريد إسرائيل أن تضمن عجز “حزب الله” التام عن التدخل في هذين الملفين عندما ينتقلان إلى مستوى التنفيذ!
وهذه الضمانة مستحيلة، إن أتت سلطة تنفيذية لبنانية “خاضعة” أو “متواطئة” مع “حزب الله”.
ما يحاول الحزب إخفاءه بمواقف تصعيدية داخلية عن اللبنانيين ليس غائباً عن ذهن صنّاع القرار. هذا الأمر يعرفه جيّداً آموس هوكشتاين، الوسيط الأميركي الذي يقوم بآخر زياراته الرسمية للبنان، حالياً، ونقله، عشية جلسة انتخاب رئيس الجمهورية المقررة يوم الخميس المقبل، إلى جميع المعنيين… كما يعرفه جميع المعنيين بتمويل إعادة إعمار ما هدمته الحرب، ولذلك هم يتدخلون بالموضوع الرئاسي، كما هي عليه حال المملكة العربية السعودية، إذ إنّ أيّ دولة لن تُرسل قرشاً واحداً لإعادة الإعمار، إن كان شبح إعادة الحرب ماثلاً، فتجربة عام 2006 لن تتكرر في عام 2025.
وبالفعل، فإنّ مقارنة وعود مساعدات إعادة الإعمار بعد حرب عام 2006 مع انعدام الوعود بعد حرب عام 2024 لافتة للانتباه. في عام 2006، كانت الوعود قد اكتملت، وباتت رؤية المساعدات العربية والدولية واضحة جداً. هذه المرة، لا أحد يعرف شيئاً، على الرغم من أنّ الدمار أكبر بثلاثة أضعاف عمّا كان عليه في عام 2006.
يستطيع “حزب الله” أن يمنع مجيء الشخصية المناسبة لهذه المرحلة، فموازين القوى النيابية تتيح له ذلك، ولكنّ عليه أن يفكر كثيراً بالأثمان: مخاطر تجدد الحرب، وكوارث إبقاء الدمار على حاله!
ويستطيع “حزب الله” أن يحاكي نظريات قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي المنبرية بأنّ “جبهة المقاومة في ذروة قوتها”، ولكنّ عليه، في الوقت نفسه، أن يتحضر لدفع أثمان ما بيّنت التجارب الأخيرة، وحتى قبل سقوط النظام السوري، أنّه ليس أكثر من “هلوسة”!