يصوّر “حزب الله” نفسه كما لو كان “حكيمًا استراتيجيًّا”، لتبرير عدم إقدامه على الرد على الهجومات الإسرائيلية التي تستهدفه، منذ التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي. هذه الهجومات التي بلغت ذروتها، بين صباحي السبت والأحد الماضيين، إثر إطلاق “جهة مجهولة” ستة صواريخ على مستوطنة المطلة في شمال إسرائيل، سقطت ثلاثة منها ضمن الأراضي اللبنانية واعترضت القبة الحديدية الثلاثة الباقية.
ولكنّ هذه الصفة “المميّزة” التي يضفيها “حزب الله” على نفسه، لم تعد تقنع احدًا، ف”الحكمة” تحتاج إلى الامتناع عن استعمال “القدرة” في مكان ضار.
وفي الواقع، لم يعد “حزب الله” يمتلك هذه القدرة، فالتفوق العسكري الإسرائيلي الذي سبق ان اعترف به الحزب على لسان كبار مسؤوليه يتقدمهم امينه العام الشيخ نعيم قاسم، أفسد ما تبقى من قدرات الحزب وجعلها غير قابلة للاستعمال، وبالتالي أنهى معادلة الردع التي كان يتمتع بها قبل الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه!
كانت مقولة الحكمة تصح في تاريخ طوته التطورات الأخيرة التي قضت على القيادة التاريخية للحزب مع آلاف مقاتليه المحترفين وعشرات آلاف الصواريخ التي لم يعد يملك منها سوى عدد قليل نسبيا، وتفتش إسرائيل عليها، على مدار الساعة للانقضاض على أي مخزن يمكن ان تكتشفه، حتى لو كان في نقطة عميقة من باطن الأرض، غير آبهة بالتفسير اللبناني المعلن لمضامين اتفاق وقف إطلاق النار.
من الواضح إنّ إسرائيل، في واقعها العسكري الجديد الذي تسعى فيه إلى خلق معادلات من شأنها أن تُشفي شعبها من عوارض السابع من تشرين الأول ٢٠٢٣، حين قادت “حركة حماس” الهجوم على “غلاف غزة”، لم تعد تسعى إلى تجنّب المواجهات الدامية مع اعدائها، بل باتت، مستفيدة من دعم أميركي يكاد يكون مطلقا، في حالة حرب مستمرة هدفها اخضاع هؤلاء الأعداء لمعادلاتها هي، سواء حاربوا او هادنوا!
ويخضع “حزب الله” لهذه المعادلة الإسرائيلية التي جعلته في موقع ضعف غير مسبوق على الإطلاق.
وبناء على ذلك، لا يتمتع الحزب بالمؤهلات التي تتيح له ان يصف نفسه بالحكيم، فهو، بين صباحي السبت والأحد الماضيين دفع ثمنا غاليا لقاء صلية صاروخية، عاد وتبرأ منها. ولم يكن لدى الحزب أي قدرة على تفعيل “معادلة الردع”، ولو على مستوى ” التهديد اللفظي”.
وبناء عليه، لم يُخطئ رئيس الحكومة اللبنانية نوّاف سلام عندما نسب معادلات “حزب الله” وسلاحه إلى “تاريخ طواه الزمن”!
بديهي أن يستاء الحزب من توصيف سلام للواقع، وأن يشن عليه حملة عنيفة، وأن يفعل ما أمكنه للانقلاب على هذه الصورة السلبية، ولكن ذلك لا يغيّر الواقع، لأنّ سلاح “حزب الله” كما شعاراته، لم تعد تؤدي أي خدمة في الضغط على إسرائيل، بل باتت تشكل عائقًا أمام نهوض لبنان من تحت الأنقاض، اذ يؤكد القاصي والداني للمسؤولين اللبنانيين أنّ دعم لبنان يحتاج، بادئ ذي بدء، الى أن تكون الدولة دولة لا شريك لها في “احتكار العنف” ولا في “قرار الحرب والسلم” ولا في أي مسؤولية سيادية من أي نوع كانت!
وهذا يعني أنّ سلاح “حزب الله” أصبح مؤذيًا للبنان، في وقت بطلت فيه مفاعيله ضد إسرائيل.
وعليه، فإنّ رأس الحكمة يبقى، بطبيعة الحال، في مخافة الله، ولكنّه في لبنان يقتضي التجرؤ على “حزب الله”، لأنّ خلاف ذلك، من شأنه أن يبقي الح رب الإسرائيلية مفتوحة، وأن يُديم احتلال جيشها للتلال الجنوبية الاستراتيجية، وأن يمنع إعادة الاعمار، وأن يحول دون تدفق الاستثمارات التي لا بد منها لإخراج لبنان من الجحيم المالي-الاقتصادي، وأن يمنع الدولة من النهوض إلى وظائفها الطبيعية ويبقيها جسمًا ضخمًا عاجزا عن الحركة.
أنّ “حزب الله” حتى يستحق لقب “الحكمة” عليه أن يُدرك أنّ رحلة الدفاع عن سلاحه لم تعد مباحة، وأنّ العثور على حلفاء وطنيين يدعمونه في مسعاه هذا غير ممكن، وأنّ جهوده يجب ان تنصب على المساهمة في إقامة دولة قادرة على خدمة اللبنانيين عموما والشيعة منهم خصوصا، بعدما تسبب اعتقاده بقوة سلاحه وقدراته في مواجهة إسرائيل، إلى وبال على الجميع!