سجالات ومواقف متنوعة من السياسي إلى الاجتماعي إلى الطائفي والمذهبي شهدها لبنان خلال الأيام الماضية، وضجت بها وسائل الإعلام، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، تشير جميعها إلى حال الانحطاط التي يعيشها البلد المنحدر إلى الهاوية.
دعكم من النقاش المحبط في موضوع حاكمية مصرف لبنان والعجز المخجل عن ابتكار حل لمسألة الفراغ الحثيث الخطى نهاية تموز (يوليو) الجاري، مع بلوغ ولاية الحاكم المثير للجدل رياض سلامة نهايتها من دون أن تتفق الطبقة السياسية على صيغة لخلافته تؤمّن استمرارية المرفق الأهم في البلد والاستقرار الهش للعملة الوطنية. وكذلك من التجاذب العقيم حول رئاسة الجمهورية الممتد منذ نحو تسعة أشهر، والمرشح للاستمرار إلى ما شاء الله ما دام البلد منقسماً عمودياً إلى قسمين لا يلتقيان إلا في الكواليس، ويريد كل منهما رئيساً على مقاسه ومقاس مشاريعه المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمحاور الإقليمية والدولية. مسألة الرئيس أصبحت مملة، بعدما أيقن اللبنانيون جميعاً أنها ليست مسألة لبنانية، وهي ربما باتت لا تعنيهم ما دام البلد لا يقوده رئيس ولا حكومة بل قوى طائفية وأجهزة.
قضايا كثيرة سئم اللبنانيون الحديث عنها: الفساد في الإدارة والقضاء، انفجار المرفأ، الكهرباء، الارتفاع المطرد في أسعار السلع والخدمات، انهيار المنظومات الصحية والتربوية والعمرانية، الفوضى وارتفاع نسب الجريمة…
الأسبوع الماضي كان أسبوع السفيرة الفرنسية آن غريو المغادرة بعد انتهاء مهمتها في لبنان. شغلت غريو اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي بعد خطابها الوداعي الذي دعت إلى الاستماع إليه الطبقة السياسية والنخب اللبنانية. فشّت السفيرة خلقها بالطبقة السياسية تقريعاً واتهاماً وسط صمت مخز. صمت المذنب الذي بلع لسانه أمام الحقيقة المرة. ربما كانت السفيرة قد تخطت حدود اللياقة في كلامها الجارح للكرامات، لكن “من يهن يسهل الهوان عليه”. فقط مدوّنون وناشطون شعروا بوطأة كلام السفيرة، فتحركت حميّتهم معتبرين كلامها استفزازياً وخرقاً للأصول وتدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية.
قدمت السفيرة عرضاً للواقع اللبناني كما تراه بلادها، و”ربّحت اللبنانيين جميلة” تقديماتها قبل أن تتهم الطبقة السياسية بالعجز والقصور، بلغة سبقها إليها رئيسها إيمانويل ماكرون قبل أكثر من سنتين. كأن باريس تريد الانتقام من الطبقة السياسية التي أفشلت مبادراتها الواحدة تلو الأخرى، مجيّرة مساعي الحلول إلى جهات أخرى. الحمد لله أن هناك من ثارت حميّته فهب نصرة لكرامة البلد، معتبراً أنها انتهكت، وبالتأكيد ليس لكرامة السياسيين.
في السجالات اللبنانية أيضاً عاد مجدداً موضوع تقديم الكحول في المطاعم إلى دائرة التراشق اللبناني، وهو موضوع يتجدد كل فترة، ومثيرته هذه المرة كانت الإعلامية الشهيرة مي الشدياق التي انتقدت في تغريدة عدم تقديم بعض المطاعم في بيروت الخمر، رابطة الخمر بالحرية. وهو موضوع كان قد أثاره بشكل مبتذل المتمول المتزعم في زحلة إبراهيم الصقر قبل فترة.
أشعلت تغريدة الشدياق مواقع التواصل الاجتماعي، وتحول الموضوع إلى نعرة طائفية بين مسلمين ومسيحيين. وهو بالأصل موضوع خلافي وسخيف في آن واحد، وعلاقته بالحرية كما يفهمها بعضهم هي علاقة مغلوطة. فالحرية في العمق هي أن يقر كل واحد بحق الآخر بالاختلاف وما يجب أن يجمع هو المواطنة لا شرب الخمر أو عدم شربه، فهذا خيار شخصي خاص بكل مواطن وبكل صاحب مؤسسة.
قبل موضوع تقديم الخمر في المطاعم اختلف مسلمون ومسيحيون أيضاً على الشطافة في “التواليت”، انتقدها مسيحيون باعتبارها مظهراً مرتبطاً بالوضوء وهدر الماء على المؤخرات وإغراق الحمامات به، ودافع عنها مسلمون معتبرينها مظهراً للنظافة ومفهوم الطهارة الإسلامي، وأنها أفضل و”أنعم” من المحار م الورقية. وفي الحالتين انزلق السجال إلى قعر مريب.
بالأمس أيضاً اختلف مسلمون سنة وآخرون شيعة على شكل قبة مسجد قيد الترميم في ساحل إقليم الخروب، هؤلاء يزعمون ملكية المسجد وأولئك أيضاً. وبين الرمز السني والرمز الشيعي كادت تشتعل فتنة في المنطقة الساحلية المختلطة طائفياً ومذهبياً.
وقبل أسبوع كاد حادث سير وتضارب على طريق البقاع الغربي السني وراشيا الدرزية يتسبب بـ”حرب مذهبية” بين القرى المتداخلة مذهبياً، لولا تدخل “العقلاء”. ولا داعي للتذكير بحادثة مقتل شابين من بشري في قمة القرنة السوداء الشمالية التي كان يمكن أن تتطور إلى مشكل كبير بين مسيحيي بشري ومسلمي الضنية، قبل أن تأخذ طريق المعالجة الأمنية والقضائية و”العشائرية”.
فجأة في لبنان تسقط شعارات الأخوّة والتعايش وترتفع أصوات الفرقة. وكل ذلك لا مبرر له ولا ضرورة. كل هذا السجال لا يقدم ولا يؤخر.
لأن لا سياسة في لبنان ينحو الناس نحو “التسلية”. يزجون وقتهم في النقار في ما بينهم، لم يترك لهم زعماؤهم ومنظّروهم لهم سوى العصبيات الطائفية والمذهبية ليتسلّوا بها.
النهار العربي