يشكّل النَدم القاسم المشترك بين البشرية، وهو يأتي في الترتيب الثاني بعد الحب ضمن المشاعر الأكثر إثارة في الأحاديث اليومية، وقد بيّنت الإحصاءات أنّ أكثر من ٨٠٪ اعترفوا بأنهم نادمون على شيء ما في حياتهم، سواء قاموا به أو أحجموا عنه.
وغالبًا ما يأتي بعد أن تنشط آلة العقل التخيليّة، فيندم الشخص على إضاعته فرصة ما، أو تفوّهه بكلمات جارحة، أو ارتكابه خطأ ما، أو قيامه بعمل مشين…
ولكن ما الذي يخلق مشاعر الندم هذه أكثر، الفعل أو… عدمه؟
قد يتوقف الشعور بالندم على المدى الزمني للفعل، فعلى المدى القصير، يشعر المرء بالندم بشكل أكبر على ما فعله، مثلًا: “لو لم أخرج على عجل لما كنت وقعت”، بينما على المدى الطويل، يكون الندم على ما لم يقم به، فيتصوّر أن الأحداث كانت ستتطوّر بطريقة مختلفة لو تخصّص بهذا المجال أو هاجر مثلًا…
سحر الحياة التي لم نعشها
قد يصعب على الحقيقة أن تصمد أمام خيال الإنسان وتأملاته، ففي سيناريوهات المرء الخيالية، غالبًا ما يكون الكمال هو المرجعية، إذ يحاول أن يرسم سحرًا لحياة لم يعشها، فنراه يتحسّر على فرصة لم يقتنصها، وعلى قرار لم يتخذه… ما يسمّيه علم النفس ب”الانحياز الاسترجاعي”، حيث يشكّك الإنسان بوضوح رؤيته وقدراته على حسن تقديره للأمور، ويغفل أنه في لحظة الحدث، لربما كانت إمكانياته محدودة، أو ظروفه غير مناسبة، أو أنه لم يكن يمتلك الخبرة والمعرفة.
أنواع الأسف
من المعروف أنه من أهم اتجاهات التنمية الشخصية هي الدعوة إلى عدم التأسف والندم، إلا أن علم النفس الحديث وجد أنّ “فائدة الأسف كبيرة”، فمن خلال استطلاع أُجري على الإنترنت، تمكّن العالم النفسي الأميركي دانيال بينك من دراسة شهادات لأكثر من ١٦ ألف شخص من ١٠٥دول أبدوا أسفهم إزاء أشياء حصلت في حياتهم.
Daniel Pink
وخلصت نتائج الاستطلاع إلى تحديد بينك أربعة أنواع رئيسية للأسف:
النوع الأول:
“الأسف البنّاء”: ويتعلّق بكل ما لم يحقّقه الفرد خلال فترة شبابه، كاتقان لغة أجنبية، أو الاستمرار في تعلم العزف على آلة موسيقية، أو تطوير مهارات رياضية، أو متابعة التحصيل العلمي أو عدم التدخين…
النوع الثاني:
يشمل الأفعال التي تتطلب الشجاعة: كأن يندم المرء على عدم التعبير عن مشاعره لشخص ما، أو السماح باستغلاله من قبل ربّ عمله، أو على عدم مقاضاة شريكه العنيف، أو على عدم الإبلاغ عن فساد كان شاهدًا عليه…
النوع الثالث:
يشمل هذا النوع انتهاكات للقوانين والقيم مثل الكذب والخيانة والتلاعب والخداع والسرقة والتسبّب بوفاة والاحتيال… أشياء قد تجعل المرء يستيقظ في وسط الليل مرعوبًا ومتعرّقًا، بعد سنوات من وقوع الفعل.
النوع الرابع:
يركّز هذا النوع من الندم على المشاعر، كأن يندم الفرد على عدم تمسّكه بالروابط العائليّة، مثل عدم الاستفادة أكثر من أطفاله عندما كانوا صغارًا، وعدم إظهار المزيد من الاهتمام والحبّ والامتنان لأهله…
ويشرح دانيال بينك أنّ النوع الأول من الندم يعني التوق إلى الاستقرار بشكل غير مباشر، وأن الندم على عدم الشجاعة في الفئة الثانية يشير إلى السعي إلى النمو والتطوّر، أما الأسف المتعلق بالأخلاق، فيبرز مدى رغبة المرء في أن يكون شخصًا جيّدًا ولطيفًا، أما النوع الرابع، فهو السّعي إلى الحب والتعلّق.
قد يكون علم النفس الحديث على صواب بأنّ عبارة “الندم لا ينفع” لم يعد لها مكان في أيامنا هذه، فالندم هو الوحيد القادر على تطهير النفوس وتهيئها للتوبة والنضوج، وعلى تجسيد القيم… لذا فلنجعل منه غذاء للنفس وحافزًا للنمو الشخصي، بدلًا من تحويله إلى فريسة… فيبتلعنا.