على وقع الحرب الطاحنة الدائرة في غزة منذ السابع من تشرين الأول الماضي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة من جهة وحركة حماس الإسلامية من جهة أخرى، يراقب العالم على الأرجح المشهد الأخير من قصة تعايش طويلة ومعقدة بين عدوّين لدودين، مرّت بمحطات من المواجهات المسلحة العنيفة والمهادنة الصعبة والتفاهمات الضمنية. صحيح أنّ كلّ واحد منهما يحمل مشروعًا يقع على اقصى يمين بيئته السياسية الخاصة مرتكزا على عقيدة صلبة غير قابلة للتبدل ما يضع كل طرف على النقيض من الآخر، الا انّ الصحيح أيضًا أنّ إدارة الصراع بينهما بقيت على الدوام وحتى السابع من تشرين الأوّل الماضي، ضمن ضوابط كانت تهدف الى تعزيز موقف ونفوذ الآخر كلّ ضمن ملعبه.
يراقب العالم المشهد الأخير من قصة تعايش طويلة ومعقدة بين عدوّين لدودين، مرّت بمحطات من المواجهات المسلحة العنيفة والمهادنة الصعبة والتفاهمات الضمنية
نتنياهو
بنيامين نتنياهو الذي يحمل منذ يفاعته السياسية عقيدة متطرفة نهلها منذ طفولته، هو ابن “بنسيون” سكرتير أحد أهم رموز يمين الصهيونية زئيف جابوتنسكي.
واقتداءا بمعلمه بدأ نتنياهو حياته في الشأن العام كديبلوماسي على قناعة تامة بأنّ الصهيونية قدمت تنازلها التاريخي للعرب بتراجعها عن مطلبها الأساس بإنشاء دولة إسرائيل على ضفتي النهر معتبرًا أنّ الفلسطينيين قد حصلوا على دولتهم على الضفة الشرقية وأنّ على من تبقى منهم على الضفة الغربية من النهر اما الانتقال الى دولتهم، أي الأردن أو البقاء مجرّدين من الحقوق السياسية في دولة إسرائيل الممتدة من البحر الى النهر.
ترافقت تلك العقيدة مع قناعة راسخة باستحالة التعايش اليهودي مع الفلسطينيين ذهب معها نتانياهو الى حد محاولة اشراكهم بالمسؤولية عن المحرقة النازية بحق يهود أوروبا اذ نقلت عنه صحيفة هآرتس في عددها المؤرخ ٢١ تشرين الأوّل ٢٠١٥ قوله في كلمة له امام المؤتمر الصهيوني العالمي “ان مفتي القدس محمد امين الحسيني الذي كان يخشى لجوء يهود اوروبا بأعداد كبيرة الى فلسطين هو الذي اقنع هتلر بفكرة القضاء عليهم وبأنّ الفوهرر كان لولا ذلك سيكتفي فقط بطردهم من هناك”.( غنيّ عن التأكيد أنّ الغالبية الساحقة من المؤرخين المتخصصين بهذا الموضوع أعلنوا عن عدم صحة هذا الادعاء).
خلال مسيرته السياسية الطويلة لم يحد نتنياهو قيد أنملة عن عقيدته. خاض من أجلها الحروب العسكرية والمعارك الطاحنة في الداخل الإسرائيلي وعلى الساحة الدبلوماسية في العالم وغلّفها بشعار الأمن مقابل السلام مسقطًا شعار الأرض مقابل السلام الذي واجهه من دون هوادة ومطلقًا سياسة استيطانية شرسة في الضفة الغربية ومحددًا سقفًا سياسيًّا للفلسطينيين يتمثل بحكم ذاتي محدود ضمن مناطق تواجدهم.
وعلى مدى ما يزيد عن ربع قرن من الزمن تصدّر نتنياهو المشهد السياسي الإسرائيلي على رأس وزارات أساسية او زعيم للمعارضة أو بشكل خاص كرئيس للحكومة، ويعتبر السياسي الذي تربّع على رأس السلطة لأطول فترة زمنية وبشكل متواصل وذلك منذ تأسيس دولة إسرائيل.
أتاحت له تلك الفترة الطويلة في موقع القيادة وضع عقيدته المتطرفة موضع التنفيذ، فترك بصماته العميقة على التركيبة السياسيّة لبلاده وأسهم في حرف غالبية الرأي العام الى اليمين، وحقق خطوات كبيرة باتجاه حل الوطن البديل في مقاربته للصراع مع الفلسطينيين.
بدأ نتنياهو حياته في الشأن العام كديبلوماسي على قناعة تامة بأنّ الصهيونية قدمت تنازلها التاريخي للعرب بتراجعها عن مطلبها الأساس بإنشاء دولة إسرائيل على ضفتي النهر معتبرًا أنّ الفلسطينيين قد حصلوا على دولتهم على الضفة الشرقية وأنّ على من تبقى منهم على الضفة الغربية من النهر اما الانتقال الى دولتهم، أي الأردن أو البقاء مجرّدين من الحقوق السياسية في دولة إسرائيل الممتدة من البحر الى النهر
حماس
على الطرف المقابل من نتنياهو وعقيدته المتطرفة وكمرآة له على الساحة الفلسطينية، نشأت حركة حماس وتصاعد نفوذها على الساحة الفلسطينية بالتوازي مع تصدّر نتنياهو للمشهد السياسي في اسرائيل.
في رحم تنظيم الاخوان المسلمين الذي كان يتمتّع بحضور واسع في قطاع غزّة عبر أنشطة الدعوة والعمل الاجتماعي وذلك منذ السيطرة المصرية عليه، تأسست حماس العام ١٩٨٧ حركة سياسية فلسطي نية تتبنى الإسلام السياسي كأيديولوجية فكرية، تعتبر ارض فلسطين أرض وقف لعموم المسلمين في العالم، تهدف الى تدمير دولة إسرائيل وإقامة دولة فلسطين الإسلامية مكانها وتتوسّل الجهاد، أي العمل المسلح بالمفهوم الإسلامي، لتحقيق ذلك.
في رحم تنظيم الاخوان المسلمين تأسست حماس العام ١٩٨٧ وهي حركة سياسية فلسطينية تتبنى الإسلام السياسي كأيديولوجية فكرية وتعتبر ارض فلسطين أرض وقف لعموم المسلمين في العالم، وتهدف الى تدمير دولة إسرائيل وإقامة دولة فلسطين الإسلامية مكانها وتتوسّل الجهاد، أي العمل المسلح بالمفهوم الإسلامي، لتحقيق ذلك
بداية التقاطع
في أيلول ١٩٩٣ انطلق وبدعم أميركي وعربي ودولي مسار أوسلو السلمي الذي كان يهدف لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عبر مسار سياسي يؤدّي لإنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على أراضي ١٩٦٧ الى جانب دولة إسرائيل. قاد هذا المسار عن الجانب الفلسطيني ياسر عرفات، رمز الهوية الوطنية الفلسطينية بدعم من أغلبية الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة كما في دول الشتات، وعن الجانب الإسرائيلي اسحق رابين، زعيم اليسار مدعومًا أيضا من غالبية إسرائيلية كانت على قناعة في ذلك الوقت بضرورة اقتناص فرصة السلام وخوض غمارها.
منذ انطلاق هذا المسار عارضه نتنياهو وحماس بشدة واتخذا قرارًا بتدميره بكل الوسائل متوسلَين هذا الهدف للصعود السياسي وزيادة نفوذهما، كل في بيئته. ومن ذلك الحين ترافقا كل من موقعه في نوع من الشراكة الطويلة المدى وغير المعلنة لقتل أي فرصة لحل سياسي بين الشعبين، ونجحا في ذلك الى حد بعيد.
فمنذ انطلاق أوسلو اعتبر نتنياهو، نجم اليمين الصاعد في حينه، انّ هذا المسار يخالف عقيدته السياسية ويشكل تهديدًا وجوديًّا لدولة إسرائيل. ومن موقعه كزعيم لليكود شنّ حملة شعواء على اليسار الإسرائيلي مثيرًا خلالها غرائز اليمين الإسرائيلي المتطرف ملصقًا تهمة خيانة المشروع الصهيوني بموقّعي الاتفاق ما فتح الطريق لايغال عمير بالإقدام على اغتيال اسحق رابين في وسط ساحة الملوك في تل ابيب مساء الرابع من تشرين الثاني من عام ١٩٩٥ غداة أضخم احتفال تشهده المدينة دعمًا للسلام. فكانت اول ضربة قاسية لمسار أوسلو بإزاحة أحد اركانه.
على الجانب الفلسطيني استهلّت حركة حماس محاربة أوسلو بتكثيف عملياتها الانتحارية ضد الأهداف الإسرائيلية العسكرية كما المدنية مما اثار الشكوك بجدوى السلام لدى جزء من الرأي العام الإسرائيلي الذي ساهم في وصول نتنياهو الى رئاسة الوزراء بعد فوزه في الانتخابات العامة على شيمون بيريز أواخر ١٩٩٦. في تلك الفترة لم تكسب حركة حماس تعاطفًا جماهيريًّا فلسطينيًّا نتيجة محاربة أوسلو ذلك انّ ياسر عرفات كان قد عاد ظافرًا من منفاه الى ارض فلسطين العام ١٩٩٥ للشروع ببناء السلطة الفلسطينية ومؤسساتها. في العام التالي أجريت أوّل انتخابات رئاسية وتشريعية في فلسطين قاطعتها حركة حماس وفاز بها عرفات بموقع الرئاسة فوزًا ساحقا كما نالت حركة فتح أغلبية مريحة في المجلس الوطني الفلسطيني.
أمضى نتنياهو ثلاث سنوات على رأس السلطة في إسرائيل محاولًا التملّص من تعهدات أوسلو ونجح في مقاومة ضغوط إدارة الرئيس كليتنون عليه لدفع المسار السلمي قدمًا. تعمّد إعطاء بنود اتفاقات أوسلو تفسيرا بحدّها الأدنى وجهد للتحايل عليها اذ ينقل عنه قوله: “تعطيني بنود أوسلو حق الاحتفاظ بأراض في الضفة لضرورات عسكرية. حسنًا أنا اعتبر كلّ وادي الأردن ضرورة عسكرية لإسرائيل” وكان أقصى ما هو مستعد للموافقة عليه في إطار مفاوضات الحل النهائي يتمثّل في استعداده لتسليم الفلسطينيين ٤٠٪ من مساحة الضفة الغربية مع علمه المسبق بعدم جدية ذلك الطرح وتوقع رفضه المطلق من قبل ياسر عرفات. أمام تعنّت نتنياهو وصعوبات تطوير مسار أوسلو مع مثل ذلك الشريك كرّس أبو عمار جهوده في تلك الفترة لتطوير مؤسسات الدولة الفلسطينية الموعودة من مثل افتتاحه لمطار غزة الدولي برفقة الرئيس كلينتون في تشرين الثاني من سنة ١٩٩٨.
منذ انطلاق المسار السلمي عارضه نتنياهو وحماس بشدة واتخذا قرارًا بتدميره بكل الوسائل متوسلَين هذا الهدف للصعود السياسي وزيادة نفوذهما، كل في بيئته. ومن ذلك الحين ترافقا كل من موقعه في نوع من الشراكة الطويلة المدى وغير المعلنة لقتل أي فرصة لحل سياسي بين الشعبين، ونجحا في ذلك الى حد بعيد
تصفية ركني السلام
في العام ١٩٩٩ عاد حزب العمل الى السلطة بزعامة ايهود باراك في إشارة الى استمرار وجود غالبية إسرائيلية تؤيد مسار السلام وعادت معه بزخم جهود الوساطة الأميركية للتوصل لاتفاق نهائي بين طرفي الصراع وضاعت الفرصة التي أتاحتها مفاوضات كامب دايفيد برعاية شخصية من الرئيس كلينتون. كان ذلك من أسباب عودة اليمين الإسرائيلي العام ٢٠٠١ الى السلطة بزعامة أحد صقوره ارييل شارون متأبطًا نتنياهو كوزير للخارجية. وسرعان ما اندلعت الانتفاضة الثانية أمام انسداد أفق العملية السلمية. على عكس الانتفاضة الفلسطينية الأولى اتصفت الثانية بالكثير من الدموية ولعبت حركة حماس ومنظمة الجهاد الإسلامي دورًا محوريًّا في ذلك. كان رد شارون وحشيًا، تدميريا ودمويا لكنّه لم يترك الفرصة تفوته بالانتقام من غريمه اللدود، فحاصر ياسر عرفات في المقاطعة في رام الله ما يقارب الثلاث سنوات متواصلة الى ان أجبره على الخروج منها مسمومًا الى المستشفى العسكري قرب باريس ليعود جثة الى فلسطين في ١٢ تشرين الثاني ٢٠٠٤. وهكذا، بعد اغتيال ركن أوسلو الأول تمّت إزاحة الركن الثاني.
كرّس أبو عمار جهوده لتطوير مؤسسات الدولة الفلسطينية الموعودة من مثل افتتاحه لمطار غزة الدولي برفقة الرئيس كلينتون في تشرين الثاني من سنة ١٩٩٨
شارون ونتنياهو
بعد تخلصه من أبو عمار بدأ شارون بإطلاق إشارات تحوله التدريجي من اليمين الى يمين الوسط واستعداده لاتخاذ محمود عباس خليفة عرفات كشريك للسلام وأعلن عن قراره بتفكيك مستوطنات غزة والاخلاء التام للقطاع وعن إمكانية تفكيك بعض المستوطنات في الضفة الغربية كثمن للسلام. لم يتزحزح نتنياهو عن صهيونيته المتطرفة وعارض بشدة قرار الاخلاء واستقال من الحكومة التي كان يشغل فيها حينها وزارة المالية وتحوّل الى المعارضة، فيما أصرّ شارون على قراره ونفذّ انسحابًا كاملًا من قطاع غزة منتصف أيلول ٢٠٠٥. وتمهيدًا لانتخابات عامة توقّعت الاستطلاعات ان يكون المنتصر الأول فيها انفصل شارون عن الليكود واسّس حزب كاديما الوسطي. غير انّه لم يتسنّ له تنفيذ الترجمة السياسية لتحوّله الوسطي اذ سرعان ما دخل في كوما طويلة اخرجته نهائيا من المشهد.
تصدّر حماس
وبفعل تصدّر حماس للانتفاضة الثانية وقمعها الوحشي من جانب شارون وعدم تمييزه في مواجهتها بين التنظيمات الاسلامية وبين السلطة الفلسطينية ورمزها ياسر عرفات وبفعل شلل العملية السلمية نتيجة لكل ذلك بدأ التحول لدى الرأي العام الفلسطيني بالابتعاد عن حركة فتح واتجاهه صوب حماس والذي ترجم بفوزها العام ٢٠٠٥ بمعظم المجالس البلدية الفلسطينية وبحصولها بعد عام على أغلبية مريحة في الانتخابات التشريعية قادت نتائجها لانقلاب حماس الدموي على فتح في قطاع غزّة منتصف حزيران ٢٠٠٧ وسيطرتها الكاملة عليه منذ ذلك الوقت مما ادّى الى تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى كيانين بحكم الأمر الواقع، الضفة الغربية التي تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية، وغزّة التي تحكمها حماس.
انحسار اليسار الاسرائيلي
على الجانب الإسرائيلي انطلق مسار الانحدار الى حد التلاشي لليسار الإسرائيلي في مقابل تصاعد هيمنة اليمين بكل تلاوينه من صهيوني متطرف أم ديني متشدّد أو عنصري استيطاني. هكذا عاد نتنياهو العام ٢٠٠٩ الى رأس السلطة ليبقى متربعاً على قمتها حتى اليوم مع استثناء قصير بقيادة الثنائي بينيت ـ لابيد لسنة ونيّف انتهى أواخر العام ٢٠٢٢.
الإستثمار ب…حماس
اعتمد نتنياهو منذ ٢٠٠٩ سياسة عنوانها العريض والثابت يتلخّص أولًا بتقوية حكم حماس في قطاع غزّة، وبإضعاف السلطة الفلسطينية ثانيا مخالفا سياسة خلفه أولمرت الذي سعى لإنهاء الصراع والتوصل الى اتفاق حل نهائي مع محمود عباس
فور عودته الى السلطة وضع نصب عينيه الاستثمار الأقصى في انقلاب حماس معتبرًا ذلك هدية من السماء وفرصة ذهبية للضرب في جثة الحل السلمي للمسألة الفلسطينية على أساس الدولتين ودفنها نهائيًّا. هكذا اعتمد نتنياهو منذ ٢٠٠٩ سياسة عنوانها العريض والثابت يتلخّص أولًا بتقوية حكم حماس في قطاع غزّة، وبإضعاف السلطة الفلسطينية ثانيا مخالفا سياسة خلفه أولمرت الذي سعى لإنهاء الصراع والتوصل الى اتفاق حل نهائي مع محمود عباس.
طوال أربعة عشر عاما قاوم نتنياهو كافة المحاولات عسكرية كانت ام ديبلوماسية للقضاء على حكم حماس. على العكس من ذلك استفادت الحركة من دعمه ومن تسهيله الفاضح لعمليات تمويلها.
على المستوى الأمني اتصفت سياسة نتنياهو بالارتخاء تجاه حماس اذ كان يكتفي بردّ محدود ويتجنب ما يمكن ان يشكل تغييرًا جذريا لقواعد اللعبة وتهديدًا جديًّا لسلطة حماس. كمثل معارضته شبه الدائمة لعمليات تصفية قيادات حماس التي كانت تعرض عليه او تجنب عمليات برية واسعة داخل القطاع كما فعل العام ٢٠١٤ عندما سرّب الى الصحافة مضمون ما رفعته القيادة العسكرية الى الحكومة الأمنية المصغّرة عن تقدير الخسائر البشرية في صفوف الجيش نتيجة اجتياح واسع للقطاع وتأثير ذلك على الرأي العام واتخذ من التسريب حجة لعدم الموافقة على العملية. كان عند الانتهاء من كل عملية عسكرية ضد حماس يردّد في سبيل التعمية “لقد استعدنا قدراتنا الردعية في وجه حماس وأعدنا اغلاق كافة طرق امداداتها”… بانتظار جولة جديدة من العنف.
طوال أربعة عشر عاما قاوم نتنياهو كافة المحاولات عسكرية كانت ام ديبلوماسية للقضاء على حكم حماس. على العكس من ذلك استفادت الحركة من دعمه ومن تسهيله الفاضح لعمليات تمويلها.
بمساعدة نتنياهو وتسهيل منه ارتقت حماس من تنظيم متواضع بموارد محدودة الى شبه دولة مترسخة في غزّة. أغدق على الحركة هدايا كثيرة. فقد سهّل تدفق التمويل النقدي القطري منذ العام ٢٠١٢ بعد توقف السلطة عن تمويل الإدارة في غزّة. كذلك سمح بدخول البضائع الى القطاع والذي ذهب جزء منه الى التصنيع الحربي، ووافق على عمليات التبادل وإطلاق الاسرى الفلسطينيين بأعداد كبيرة فضلا عن إعطائه آلاف الاذونات لعمال غزة للدخول الى إسرائيل وغيرها.
وفي آذار من العام ٢٠١٩ تحدث نتنياهو أمام نواب الليكود عن موقفه تجاه حماس قائلًا: “على كل من يعارض دولة فلسطينية ان يدعم عمليات تحويل الأموال الى حماس لان استمرار الانفصال بين السلطة الوطنية في الضفة وحماس في غزّة سوف يمنع إقامة مثل هذه الدولة”.
ومن اجل المحافظة على سلطة حماس في غزة ذهب نتنياهو الى حدّ معارضة محاولات المصالحة بين حماس وفتح لإعادة توحيد السلطة. خلال المحادثات في هذا الإطار بين حماس وفتح العام ٢٠١٧ بتأييد من مصر والولايات المتحدة، وافقت حماس على استلام رام للسلطة في غزة وبقي الخلاف حول احتفاظ حماس بمنظومتها العسكرية. أعلن نتنياهو على الملء عن معارضته لتلك المحادثات. هو الذي لا يعير أدنى اهتمام للعملية السلمية برّر ذلك بأن “المصالحة بين حماس ومنظمة التحرير سوف تعقّد جهود التوصل الى السلام”.
ولم يبخل الاعلام الإسرائيلي في الإضاءة على سياسة نتيناهو تجاه حماس من خلال نقل تصريحات قيادات إسرائيلية من كافة الاطياف.
وفي آب ٢٠١٩ أعلن ايهود باراك عبر إذاعة الجيش: ” ان استراتيجية نتنياهو تقوم على إبقاء حماس على قيد الحياة … بهدف اضعاف السلطة في رام الله” مضيفا في هذه المقابلة:” بوجود حماس من السهل ان نشرح للإسرائيليين عن غياب الشريك الفلسطيني للجلوس والتحدث معه. إذا قويت السلطة الوطنية … سوف يكون هناك شريك”.
في كانون الثاني ٢٠١٣ صرّح عوفال ديشكين رئيس الشين بيت من ٢٠٠٥ الى ٢٠١١ الى صحيفة يديعوت احرونوت: ” بيبي نتنياهو هو أحد اهم الأشخاص الذين يساهمون في تقوية حماس وذلك منذ ولايته الأولى كرئيس للحكومة”.
وفي كانون الثاني ٢٠٢٢ صرّح غادي ازينكوت رئيس اركان الجيش الإسرائيلي السابق لصحيفة معاريف: “نتنياهو يعمل بشكل معاكس تمامًا لتقييم مجلس الامن القومي الذي أكد الحاجة الى الانفصال عن الفلسطينيين عبر حل الدولتين” .
وعلى ضفة اليمين صبّت بعض التصريحات في الاتجاه نفسه، فقد اعتبر سموتريش، وزير الملية الحالي وأحد صقور اليمين المتطرّف، في تصريح له لإذاعة الكنيست العام ٢٠١٥ بعيد انتخابه نائبًا فيه بأنّ “حماس تُعتبر حاجة أمّا السلطة الوطنية فهي بمثابة عبء”.
وفي نيسان ٢٠١٩ أعلن جوناثان اوريش أحد مستشاري نتنياهو الإعلاميين بأنّ أحد اهم إنجازات نتنياهو كان تكريس الانقسام بين غزة والضفة وهو بذلك نجح بتحطيم أيّ أمل بدولة فلسطينية مضيفًا “المال القطري ساهم جزئيا في هذا الإنجاز”. جرشون هاكوشن، جنرال احتياط ويميني متطرّف معروف، كان شديد الوضوح بقوله لمجلة ميدا الالكترونية في أيار ٢٠١٩ مدافعًا عن سياسة نتنياهو: «عندما لم يذهب رئيس الحكومة الى الحرب لدحر سلطة حماس فانه بذلك كان يمنع أبو مازن من إنشاء دولة فلسطينية موحّدة. من هذا المنطلق علينا أن تستثمر جيدا في الانقسام بين غزّة ورام الله. إنّ ذلك يسمو الى مصاف مصلحة إسرائيل العليا، ولا يمكن فهم الوضع في غزّة خارج هذا الإطار”.
حماس ونتنياهو استفادا من شراكتهما الطويلة غير المعلنة. الطرفان أجهزا على حل الدولتين فيما رسّخت حماس سلطتها في غزّة وراحت تقضم المزيد من الحضور في معقل السلطة في الضفة بانتظار اللحظة المناسبة لتثبيت نفسها اللاعب الأول على الساحة الفلسطينية. امّا نتنياهو فأبقى على حماس كفزاعة دائمة للإسرائيليين لرميهم في أحضان اليمين بكل انواعه ولتأبيد نفسه على رأس السلطة والتوسع اللامحدود للاستيطان في الضفة فيما نجح الى حدّ بعيد في اقناع العالم بإمكانية السلام والتعاون الإقليميين مع إسرائيل بغض النظر عن المسألة الفلسطينية التي لن تتطلّب، برأيه، أكثر من بعض الإجراءات التجميلية.
عوفال ديشكين رئيس الشين بيت من ٢٠٠٥ الى ٢٠١١ في صحيفة يديعوت احرونوت: ” بيبي نتنياهو هو أحد اهم الأشخاص الذين يساهمون في تقوية حماس وذلك منذ ولايته الأولى كرئيس للحكومة”.
انقلاب “حماس”
لكن ما الذي حدث لتنقل ب حماس على نتنياهو بشكل لا رجوع عنه في ذلك السابع من تشرين؟
من الصعب تقديم إجابة جازمة عن هذا السؤال على الرغم من إمكانية طرح فرضيات لا تخلو من المنطق. ونكتفي بالفرضية التالية:
كان نتنياهو يتهيّأ لمرحلة سياسية جديدة لا تنتفي فيها الحاجة لحماس وخدماتها فحسب بل قد تتطلّب محاصرة الحركة الإسلامية تمهيدا لإزاحتها عن الساحة أيضًا وذلك بعدما تحقّق لنتنياهو هدف اضعاف السلطة الفلسطينية وضرب مصداقيتها، وأصبح نشوء دولة فلسطينية مستقلة مستبعدًا، إذ تكرّس ذلك على أرض الواقع من خلال التوسّع الاستيطاني.
وبدا الأهم بالنسبة لنتنياهو أنّ اتفاق السلام مع المملكة العربية السعودية أصبح وشيكا مما سيؤدي الى اقفال الملف الفلسطيني بالحد الأدنى من الإجراءات التي ستقتصر على تحسين ظروف حياة الفلسطينيين، كما جاء على لسان ولي العهد السعودي في مقابلته الأخيرة مع محطة فوكس نيوز الأميركية ، والى فتح الباب امام الدول الإسلامية وبقية الدول العربية ـ باستثناء تلك الواقعة تحت التأثير الإيراني المباشر التي هي بواقع الحال في مصافي الدول الفاشلة ـ لعقد اتفاقات مماثلة مع إسرائيل. طبعًا في مثل هذا السيناريو لا مكان لحماس.
لم تكن حماس غائبة عن كل هذه التحوّلات وقرّرت في السابع من تشرين الأوّ ل، وبعد تحضيرات بدأت مع انطلاق “اتفاقيات ابراهام”، أن تسدّد الضربة الأولى، وأن تخوض، هذه المرة ، حربها الحقيقية الأولى مع نتنياهو. قد تودي نتائج هذا الحرب بالقضاء على نتنياهو و”حماس معًا”!
ولكن، بعد ان تضع هذه الحرب أوزارها هل يعيد الفلسطينيون والإسرائيليون انتاج نتنياهو آخر وحماس أخرى وتستمرّ المأساة ام يستفيد الشعبان من دروس هذه الحرب الدموية والتوصل الى قناعة مشتركة بضرورة التعايش السلمي في كنف دولتين مستقلتين فينتجان قيادات جديدة تعمل في هذا الاتجاه؟