"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

قراءة في ثلاثة كتب حول "نهاية الغرب": لا لن يموت الغرب

الرصد
الاثنين، 22 يوليو 2024

قراءة في ثلاثة كتب حول "نهاية الغرب": لا لن يموت الغرب

جهاد الزين

إذا كان ان الباحث الأنتروبولوجي الفرنسي إيمانويل تود يجهد في تحديد مصادر بحثية لتخدم فكرته عن انحدار الغرب الأميركي والأوروبي (ومن ضمنه الياباني) بل فكرته عن هزيمة الغرب في التغيرات العميقة التي تطرأ على العالم فيلجأ إلى الدين والجيوبوليتيك والجامعات والاقتصاد والعسكر وتحولات النخبة الإثنية والثقافية والعلمية لكي يدافع عن نظريته ب “هزيمة الغرب” التي كشَفَتْها برأيه الحرب الأوكرانية،فإن الصحافي روس دوثات المعلق في صحيفة “النيويورك تايمز” يناقش فكرة “الانحطاط” نفسها ويبدو أقل حدةً من إيمانويل تود في تفسيرها بل حتى فإن الانحطاط الأميركي الذي يرصده هو أقرب إلى مفهوم التكرار والركود وغياب الخلق الإبداعي منه إلى الانحطاط بكل الهول الحضاري السلبي الذي تحمله كلمة انحطاط.

مع أنني استفدتُ كثيراً من كتاب تود الحامل لعنوان “هزيمة الغرب” ومن كتاب دوثات في ترجمته الفرنسية : “مرحباً في الانحطاط - عندمايصبح الغرب ضحية نجاحه” ( العنوان بالإنكليزية : مجتمع منحط - عندما نصبح ضحايا نجاحنا)، فإن هذين الكتابين الصادِرَيْن الأول العام 2024 والثاني العام 2020 بالإنكليزية والعام 2024 بالفرنسية, فيما همًا يستكشفان فكرة تراجع الغرب أو ضعفه, ينهج الأول نحو إجابات صارمة لعل أكثرها مجازفةً هي فكرة موت الدين أو “البروتستانتية صفر” ( راجع مراجعتي لكتاب تود في صفحة “قضايا النهار” 11-5- 2024)، وينهج الكتاب الثاني (دوثات) نحو إجابات ملتبسة الحسم بل تكاد تكون، بعضها، من المخيلة السياسية والثقافية. فهو يصل إلى التساؤل عما إذا كان تحوّلُ أوروبا إلى الإسلام وتحوّلُ الصين إلى المسيحية احتمالَيْن واردَيْن في القرن الحادي والعشرين؟!!

منذ الثمانينات من القرن المنصرم، بحدود متابعتي، بل لا شك قبل ذلك، يدور نقاش حول مستقبل أميركا صعودا أو هبوطاً وكان كلا الفريقين المبشر باستمرار الصعود والمبشِّر بالهبوط يضمان أسماء مهمة مع هذا الاتجاه أو ذاك، حتى جاء سقوط الاتحاد السوفياتي السريع والمفاجئ ليفتح نقاشا لم يهدأ بعد حول مستقبل الغرب برمته.

والراغب برصد دقيق لأبرز الآراء في هذا النقاش الذي لم يتوقّف، يمكن اعتبار كتاب #غسان سلامة “عندما تعيد أميركا صناعة العالم” مرجعا دقيقا لكل التيارات والآراء المتعلقة بالسجال حول مستقبل الولايات المتحدة الأميركية في التسعينات من القرن المنصرم ونصف العشرية الأولى من القرن الحالي، رغم أنه صادر عام 2005. وقد مضت على صدوره حوالي عشرين سنة. وهو كتاب مُصاغ بعقل وأنامل عالم سياسةٍ وجيوبوليتيك يصلح من وجهة نظري أن يكون كتابا توثيقيا وأكاديميًا يعتمده طلاب الدراسات العليا والدكتوراه في العلاقات الدولية في الجامعات، أكثر مما هو كتاب حامل لوجهة نظر نقدية من موقع سياسي وثقافي، وبهذا المعنى يكون غسان سلامة أقرب إلى الخبراء الأميركيين مما هو إلى زملائه (ومواطنيه الفرنسيين). وهو على أي حال ككتاب حصيلة حوارات مع جزء واسع من النخبة الأميركية بمن فيهم صحافيون، كما يقول سلامة.

في قسمه الثاني الرئيسي المعنون ب “نهاية الغرب؟” يمكن النظر إلى هذا الكتاب لغسان سلامة على أنه جزء من الموجة الواسعة والهامة التي لا تزال متواصلة في السجال حول مستقبل الحلف الأطلسي وأبعد من ذلك مستقبل الغرب، وهو الموضوع الذي يجمعه مع كتابَيْ روسدوثات وإيمانويل تود على الاختلاف النوعي في أنماط الكتابة والبحث بين أنتروبولوغ (تود) و بوليتولوغ (سلامة)ومعلق سياسي صحافي(دوثات).كما أشرت أعلاه.

يشير روس دوثات إلى أن إغواء الإسلام لبعض النخبة الثقافية الغربية في ذروة صعود الإسلام السياسي لم يصل إلى مستوى استقطاب الايديولوجيا الشيوعية لهذه النخب الغربية في مراحل سابقة، وهذا صحيح من حيث فارق أساسي أن الإسلام بقي عنصراً دخيلا وهامشياعلى الثقافة الغربية فيما الشيوعية ظهرت خلال ازدهار أحزابها في أوروبا الغربية جزءا لا يتجزأ من هذه الثقافة الغربية.

الذي حصل العكس في الواقع، وهو أن نوعاً من إسلام غربي ليبرالي وُلِد تحت تأثير الثقافة الغربية. صحيح أن إسلاما شديد التطرف شهده العالم مع “القاعدة” و”داعش” لكن كما أشار تباعا وعلى مدى عقود، العديدُ من الباحثين الغربيين أن هذا المولود الوحشي للإسلام هو نتاج الحداثة نفسها. هذا يعني أن جاذب الاستقطاب الحقيقي أو الأفعل يعمل على اتجاه واحد من الغرب نحو الإسلام - وليس من الاسلام نحو الغرب - حتى في الحقل الذي تولد فيه “كائنات” مشوّهة تدّعي الإسلام “الصافي”.

وإذا كان الإسلام ليس الحقل الوحيد لبحث مستقبل الغرب ولو كان أحد الحقول الأساسية للصراعات في العالم، فماذا عن المنافس الكبيرالذي اخترق وحدانية التقدم الغربي، وهو الصين؟ أين هي الطاقة الصينية في منافسة الغرب على المستوى الثقافي رغم عمق أصالة هذه الثقافة ؟

كيف يموت الغرب أو يُهزَم وهو يحقق تقدما بل تفوقاً على كل الثقافات العالمية حتى في مجال أسمّيه التقدم الميتافيزيقي!!

من هو الأكثر حرية في التعامل مع الله: الغربيون أم الآخرون في مجال الميتافيزيق؟

إذا كان الإيمان الميتافيزيقي ليس حقلاً عقليا صرفا فالثقافة الغربية هي التي تحوّل ذلك إلى ممارسة يومية في حياة ونتاج المثقفين الغربيين وهذا يعطيها قدرة واسعة على التفكير لا تتوفر للثقافات الأخرى إذا جاز التعميم. وهذه مقارنة لم يناقشها إيمانويل تود في مقولته الجريئة”البروتستانتية صفر”.

ثم ماذا عن التقدم التكنولوجي الذي نقله الأميركيون إلى مستوى جعل البشرية تغيِّر عاداتها في العمل والمدرسة والجامعة والتواصل والقراءةوالكتابة بل والحياة كما لم يحدث من قبل، فالعالم لم يعد ممكنا أن لا يكون غربيا بكامله حتى لو نافست القوى الجديدة كالصين الغربَ في بعض حقول هذه التكنولوجيا المتقدمة جدا. ثم الاكتشافات الصحية المتواصلة وآخرها الإنجاز الأميركي في حقل مكافحة وباء الكوروناوالانتصار عليه.

ربما لم ينتهِ التاريخ كما توقع فرنسيس فوكوياما بعد سقوط الشيوعية معتبرا انتصار الليبرالية السياسية انتصاراً نهائياً. ومع أن “تحالف الفاتيكان والرئيس رونالد ريغان” قد ساهم في إسقاط الاتحاد السوفياتي وبالتالي في “نهاية التاريخ” من حيث انتصار الليبرالية ، يمكنني أن أضيف أن العامل الديني المسيحي عبر الفاتيكان والعامل الديني الإسلامي عبر أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي قد ساهمافي هذا الانتصار الغربي وتحولا إلى نوع من فكي كماشة حصار خانق واحتجاجي على الاتحاد السوفياتي خلال كل الثمانينات، ممايعني أن القوة الليبرالية ليست سيدة الموقف وحدها بعد نهاية الحرب الباردة. وسيظهر في العقد التالي مدى استفادة التيارات الجهادية السنية والشيعية من هذا الانتصار. لكن الملاحظة الأساسية هنا هي أن الغرب، كمحور للعالم أو كمركز للعالم، سيستمر في امتلاك المرونةالتي تتيح له مواجهة تيارات فكرية مختلفة عنه بل ضده أيديولوجياً.

ربما لم أكن لأشارك غسان سلامة الحاجة إلى بذل كل هذا المجهود الفكري والتحليلي الذي يظهر في كتابه (على قيمته البحثية الأكيدة) لإثبات ما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية هي إمبراطورية تستجمع عناصر التكوين التوسّعي الذي امتلكته الأمبراطوريات السابقة في التاريخ (أو لا!)، لأن الطابع الإمبراطوري الأميركي بدءا من أواخر القرن التاسع وفي القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين لا يحتاج الى إثبات حتى لو كان من الطبيعي أن تتميز هذه الأمبراطورية الأميركية بنوع أدائها الثقافي والسياسي والاقتصادي طبعا الذي يمنحهاقوة غير مألوفة في التاريخ.

فهذه الإمبراطورية الأميركية أعادت أو ساهمت في إحياء إمبراطوريات مدمَّرة حليفة لها كفرنسا وبريطانيا وعدوة لها كألمانيا واليابان كمافعلت بعد الحرب العالمية الثانية ثم لاحقا ساهم انفتاح الولايات المتحدة التاريخي على الصين في إطلاق مسار الظاهرة الصينية المتقدمة، أوالصحوة الصينية التي تشغل القرن الحادي والعشرين. لا سابق لهذا التكوين الأميركي الإمبراطوري. صحيح أن خبرات وكفاءات شعوب اوروبا الغربية واليابان ثم القابليات الصينية كان لها أدوار في هذه المسارات البنّاءة بعد التدمير الذي تعرضت له أو انخرطت ذاتيا فيه عبرالحرب بل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن بُعد النظر الاستراتيجي الأميركي أدى إلى إطلاق مشاريع إعادة بناء هائلة كمشروع مارشال لدول كبيرة منهارة أو محطّمة. البحث يطول هنا خصوصا مدى الحاجة الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، لكن البعد العسكري لا يختصر هذه التجربة إنما لم أستطع أن لا أثير هذه الأفكار التي تدفع إليها تأملات وتحليلات كتب جادة مثل هذه الكتب الثلاثة التي تحرّض على التفكير بقدر ما تحرض على الاختلاف مع العديد من خلاصاتها. وليست هذه المراجعة المكان الأنسب لبحث لماذافشلت عمليات إعادة البناء في العراق وأفغانستان وفي سياق أقدم باكستان، إعادة البناء التي وضعها الأميركيون ومفكروهم نصبت تطلعاتهم ولن أبحث عن تفسير في تبني نظرية المؤامرة السهلة والاستسهالية دون التطلع إلى نقاط ضعف قطعية للمجتمعات المعنية.

لاشك أن تخلف وأحيانا التخلف المزري لما هو غير غربي في العالم الثالث يساهم في قوة الغرب، فحتى النموذج الصيني المُبْهِر لا زال غير مستقر إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الرساميل التي يهرِّبها أغنياء الصين، مما يعني حسب روس دوثات عدم الاطمئنان العميق لمستقبل الليبرالية الاقتصادية الصينية، وهذا يضع علامات استفهام كبيرة على مدى جواز اعتبار النموذج الصيني قادرا على منافسة جاذبية النموذج الغربي حتى لو شكلت الصين عنصر جذب مضاد لنخب واسعة من العالم الثالث على التفاؤل بمستقبل اقتصادي يخرجها من التخلف.

يخرج القارئ من الكتب الثلاثة، وكلها نتاج غربي، بما يمكن أن نسميه، قياسا بتعبير روس دوثات ، “الانحطاط السعيد” الذي يسود الحالة الغربية.

مع أهمية الطاقة الغربية على إنتاج حركة نقد لا تهدأ لكل مناحي الحياة الغربية والحيوات العامة الأخري، وهو ما لا تستطيعه أي منظومة أخرى في العالم بالريادية والطليعية والجدية التي تنتجها مؤسسات البحث والتفكير الغربية، فإن الأفق “الكارثي” الذي ترسمه بعض هذه التيارات والمثقفين الغربيين لا يعدو كونه استشعارا مبكرا وسباقا عن بعد وعن قرب للقدرة على الاستمرار في القيادة الكفؤ للعالم.

ليس الغرب مجرد تحالف عسكري ربح الحرب على الاتحاد السوفياتي دون قتال مباشر بعكس ما فعله مع النازية، وليس هو مجرد حلف عسكري أميركي أوروبي متزايد التوسع الجيوبوليتيكي لحصار روسيا ولاحقا الصين. إنه بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير، منظومة شبه مسيطرة اقتصاديا على العالم رغم تزايد المنافسة الصينية وربما الهندية، والمنظومة الثقافية المرجعية في العالم وامتدادات قادرة على مساحات الكرة الأرضية تجعله وحده كتحالف القوة الوحيدة في الأرض غير المحصورة جغرافيا بينما المنافسون الآخرون، بمن فيهم روسيا الممتدة على قارتين ومن أوروبا إلى المحيط الباسيفيكي، هم أقرب إلى قوى إقليمية، هذا ناهيك عن كونه تحت قيادة العسكرية القوة العسكرية الأقوى والاشد تقدما تسليحيّاً على وجه الكرة الأرضية.

النهار

المقال السابق
الصين تنجح بدفع فتح وحماس والفصائل الفلسطنية الى اتفاق

الرصد

مقالات ذات صلة

لو كان نتنياهو رئيسا للوزراء في عام 2007 لكان الأسد يمتلك قنبلة نووية

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية