عبد معروف
قلعة المعز، أو قلعة سانت لويس، وتسمى أيضاً قلعة صيدا البرية، هي قلعة أثرية تقع في مدينة صيدا اللبنانية. بُنيت القلعة في القرن العاشر الميلادي على يد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، ومن ثم أعاد الصليبيون بناءها في العام 1254 م. وفي القرن السابع عشر الميلادي أعاد فخر الدين المعني الثاني بناءها بعد أن تضررت كثيراً في العهد المملوكي.
تقع القلعة في مدينة صيدا، على مقربة من الأسواق القديمة.
ومدينة صيدا اللبنانية من أهم المدن التاريخية العريقة التي ما تزال تحافظ على رونقها وطابعها المعماري التراثي، وتبعد عن العاصمة بيروت حوالي 40 كلم جنوباً.
وصيدا مدينة غارقة في التاريخ، وتتميز بمعالمها التراثية والتاريخية، ومن الآثار التي تروي حكاياتها المدينة القديمة، والقلعة البحرية، والقلعة البرية أو قلعة المعز، والميناء ومرافئ الصيادين، والجامع العمري الكبير، والكنائس وخان الإفرنج والحمامات الأثرية.
إسمها باللاتينية واليونانية «صيدون» والإسم مشتق من كثرة السمك في شواطئها، أو أّنّ أهلها الأقدمين عملوا كصيادي سمك. يقول الشيخ أحمد عارف الزين في مؤلفه «تاريخ صيدا» إنّ «صيدا من أقدم مدن العالم واسمها مأخوذ من بكر كنعان حفيد نوح، وكان ذلك سنة 2218 ق.م أو قبل ذلك، وكانت في أيام يشوع بن نون أم المدن الفينيقية».
ومرت المدينة على طول تاريخها بأطوار من الصراع، فقد غزاها الآشوريون واستولوا عليها عام 720 ق. م، وبعدها خضعت للبابليين ومن ثم غزاها الفرس عام 526 ق. م، وظلت تحت أيديهم حتى عام 333 ق. م عندما تمكَّن الإسكندر الأكبر من الانتصار على الفرس والاستيلاء على معظم المدن الفينيقية وعلى رأسها صيدا، وبعد ذلك خضعت لحكم البطالمة ثم الرومان، واستمرَّ وضعها على هذا الحال إلى أن تمَّ الفتح العربي الإسلامي لها عام 45هـ/ 626 م وهذا ما جعلها مدينة أثرية بامتياز، حيث تكثر فيها الآثار والتي منها ما يعود لعصور فجر التاريخ.
وأشار المؤرخ اللبناني الدكتور طلال المجذوب، إلى أن الحفريات والآثار المكتشفة تدل على أن جذور مدينة صيدا تمتد إلى العصر الفينيقي قبل حوالي خمسة آلاف سنة، ولعبت دورا بارزا في التجارة والصناعة واللغة والكتابة وسائر الأنشطة الحضارية، وتعاقبت عليها عشرات القرون فشهدت حركات صعود وهبوط من الازدهار والتأخر في العصر الفارسي، والعصر الروماني، والعصر البيزنطي، والعصر الإسلامي، والعصر الصليبي، والعصر المملوكي، وصولا إلى العصر العثماني حتى أوائل القرن الماضي.
وتحتفظ صيدا ببعض آثار ومعالم تلك العصور، وما زالت قلعتها البرية، وما اكتشف فيها من نواميس وأدوات وتماثيل فينيقية ورومانية وغيرها خير شاهد على عراقتها التاريخية ونتاجها الحضاري.
معلم أثري
بُنيت قلعة المعز (سانت لويس) على أنقاض أبنية فينيقيّة، فوق تلّة كانت تشكّل سابقاً أكروبوليس المدينة القديمة. ولا تزال بعض بقايا هذا الأكروبوليس موجودة حتى اليوم، بما في ذلك المسرح.
أطلقت على القلعة تسميات مختلفة نسبة إلى الحكّام الذين سيطروا عليها، فلقد شيّدت القلعة الحالية على أنقاض حصن يعود إلى العصر الفاطميّ، كان يُعرف محليّاً باسم قلعة المعزّ، نسبة إلى الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله، الذي قام ببنائها وتحصينها لحماية المدينة من الغزاة.
وخلال الغزوات الصليبية، وتحديداً في العام 1254 قام لويس التاسع، ملك فرنسا، أثناء إقامته بين صيدا وعكا، بترميم القلعة وتحصينها، وأضاف إليها برجاً ضخماً وكبيراً، فأطلق عليها اسم قلعة القديس لويس. وقد اقيمت القلعة في هذا الموقع على أنقاض قلعة أخرى أقدم عهدا تعود إلى العصر الفاطمي، وتنسب إلى الخليفة المعز(952-975).
ويشير الدكتور طلال المجذوب إلى أن الملك الفرنسي لويس التاسع أمر ببناء القلعة البرية على أنقاض قلعة المعز فوق تلة مشرفة على مدينة صيدا في أثناء زيارته المدينة خلال الاحتلال الصليبي، وقد تم بناؤها بين سنتي 1253-1254م فوق ربوة تعلو عن المدينة خمسة وأربعين مترا، وكانت تتكون من قوس نصف دائري في وسط برج ضخم مدور طوله 17مترا، وتصل سماكة جدرانه إلى متر ونصف.
وأشرف الملك الفرنسي شخصيا على أعمال التحصينات الضرورية التي حصلت بعد أن سوى صلاح الدين الأيوبي المدينة بالأرض، وأدار الأعمال على الأرض سيمون دومنتسيليار، رئيس فرقة رماة الملك وقائد منطقة صيدا: «استقدم العمال من كل حدب وصوب وأقفل المدينة بأسوار عالية وأبراج ضخمة».
لذلك يطلق على هذه القلعة أيضا إسم قلعة «القديس لويس» الذي قاد الحملة الصليبية السابعة (1248-1254) وأمر بترميم عدد كبير من القلاع وتحصينها، ومن بينها قلعة صيدا البرية.
وعندما استرجع الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، صيدا من الصليبيين عام 1291م في عهد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، أمر بهدم تحصيناتهم، فلما جاء العثمانيون أعاد الأمير فخر الدين الثاني ترميمها، وفي العهد العثماني أقيم فيها كشك حراسة (مخفر) من بضعة عناصر ومدفعين اثنين.
وتحتل هذه القلعة التل القديم الذي يشرف على المدينة من ناحيتها الجنوبية ويختزن في جوفه بقايا مراحل تاريخها المتعاقبة. ويعود الجزء الأكبر من القلعة إلى أيام فخر الدين الثاني، في الربع الأول من القرن السابع عشر.
أما مخطط القلعة، فيش به القوس، وفي وسط انحناءة هذا القوس يقوم البرج الكبير، وتنتشر على سفوح التل الأثري أعمدة تعود إلى العصر الروماني.
رممها اليونان والرومان والعرب
تؤكد الوثائق التي اطلعت عليها «القدس العربي» في مكتبة بلدية صيدا على أن «قلعة المعز هي قلعة طبيعية تعود إلى العصور الفينيقية الأولى، رممها اليونان والرومان والعرب، وأقاموا فيها مراكز للمراقبة والدفاع وقد تهدمت بتأثير الحروب والزلزال، ولما احتل الصليبيون صيدا عمدوا إلى ترميمها وإقامة سور حولها، ليقيها الهجمات، وأشهر من تولى تحصينها لويس التاسع ملك فرنسا الذي اتخذ مركزا له في حصنها أثناء إقامته في صيدا بين سنة (1250- 1254) وترك للفرسان الهيكليين أمر حمايته بعدئذ. ولا تزال آثار قلعة لويس باقية حتى اليوم، وتشير الوثائق إلى أن هذه القلعة كانت تعرف لدى أهالي صيدا باسم قلعة المعز نسبة إلى المعز لدين الله الفاطمي الذي حصن القلعة ورممها».
لكن بعض المصادر تعيد بناءها إلى لويس التاسع أثناء فترة إقامته بعكا وصيدا فيما بين 13 أيار/مايو سنة 1250 إلى 24 نيسان/ابريل سنة 1254.
ويذكر أن الأعمال الإنشائية في تحصين جميع الأسوار والقلاع في مدينة صيدا لحمايتها من هجمات المسلمين الذين كانوا يحاولون استرجاع المدينة قد استغرقت ثمانية شهور حتى صيام 1254 أي قبل انتهاء شهر نيسان/أبريل، أي أن أعمال الترميم بدأت في شهر أيلول/سبتمبر 1253م، وقبل الانتهاء منها قرر لويس التاسع العودة إلى فرنسا.
وبما أن أعمال القديس لويس كانت ترميم الأسوار والقلاع فهذا يعني أن قلعة البر كانت قائمة في ذلك العهد، ويؤكد هذا الرأي ما ذكره المؤرخ الفرنسي جان دي جوانفيل أنه كان يقوم على الرابية التي أقيمت عليها قلعة البر حصن قديم من أيام المكابيين.
كما أن قلعة بمثل هذه الضخامة لا يمكن أن يتم بناؤها في مدة لا تتجاوز ثمانية أشهر، أو حتى أربع سنوات والأقرب إلى الواقع هو ما رواه كونيه في كتابه «سوريا ولبنان وفلسطين» حين يقول «ونلاحظ في قلعة البر في مدينة صيدا برج بناه القديس لويس ويحمل اسمه».
وهذا هو الأقرب إلى الصحة، فالأعمال التي قام بها لويس التاسع في هذه القلعة هو بناء البرج الواضح المعالم عند مدخل القلعة الشمالي، فنسبت المصادر الصليبية بناء هذه القلعة إليه.
ويعتقد أنه كان في هذه القلعة مسجد ونستدل على ذلك من اسم مسجد القلعة البحرية، الذي كان يعرف باسم مسجد القلعة التحتاني، ما يدل على أن كان في القلعة البرية مسجداً يعرف باسم مسجد القلعة الفوقاني.
تدمير القسم الأعظم منها
لقد كانت هذه القلعة من القلاع التي حصنها وأضاف إليها المسلمون بعض الإصلاحات والترميمات لتتمكن حاميتها من صد غزوات الروم الذين كانوا يغيرون على الساحل الشمالي الممتد من شمال سوريا حتى جنوب فلسطين.
وإن كان بعض الدارسين الأوروبيين الذين درسوا القلعة دراسة علمية دقيقة، أمثال ري وكوبل يعتقدان أن أسس البناء من بقايا القلعة الصليبية، ويشيران إلى أن هذه القلعة لا تحتفظ اليوم بعناصرها الصليبية القديمة – أي لا يوجد الدليل التاريخي من حيث البناء الذي يظهر ملامح العمارة الصليبية عليها – بسبب تدمير القسم الأعظم منها، وما سببته الترميمات العديدة وأعمال الإصلاح والتجديد التي طرأت عليها منذ أن قام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بتدميرها هي والقلعة البحرية في سنة 1291م، وأعاد ترميمها وبناءها، لذلك تذكر كتب التاريخ أن الأمير سنجر الشجاعي، أعاد بناء القلعة، كما قام الأمير فخر الدين بتحصين القلعة وترميمها.
يتبين مما تقدم أن الأعمال الصليبية التي اقيمت في هذه القلعة هي برج القديس لويس. ويؤكد ذلك أن المدة الزمنية التي تم فيها بناء البرج دامت ثمانية أشهر، وهذا أقرب إلى المنطق.
أما جميع الملامح الباقية من القلعة التي يعود تاريخ بنائها إلى العهود القديمة فهي إسلامية الطابع، ولذلك عرفت باسم «قلعة المعز». وتبدو ملامحها الإسلامية في البناء المستطيل في أعلى القلعة، وفي الأبراج الدائرية التي لا تزال واضحة للناظرين. ومع الاعتقاد أن كل الذين استولوا على مدينة صيدا قد تركوا بعض ملامحهم وبصماتهم على هذه القلعة، فإن غالبية كتب التاريخ المعاصرة تعيد بناء قصر البحر إلى العهد الصليبي، مع أن البرج الضخم في هذه القلعة هو برج إسلامي، ويؤكد ذلك ما جاء في اللوحة الرخامية التي تعلو نافذة البرج المشرفة على ساحة القلعة وجاء فيها:
«بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا الحصن السعيد المقر الكريم العالي المولوي العادلي العالمي جلبان الظاهري وأنصاره في سبيل الله تعالى سنة اثنين وخمسين وسبعماية 752هـ أو 1350م».
ويتميز هذا البرج الذي يقع في الجهة الغربية من القلعة بأن واجهته الجنوبية المطلة على مدينة صيدا مدورة، ومن الجهات الأخرى يبدو مستطيلاً، وفي كل جهة من طابقه الأول تنفتح نوافذ صغيرة معقودة بعقد منكسر الرأس تستعمل كمنافذ لرمي السهام إلى جهة البحر.
إعادة الاهتمام بهذا المعلم الأثري
ولا شك أن سنوات الحرب وحالة الانهيار التي شهدها لبنان خلال عقود مضت، أدت إلى إهمال كبير في قلعة المعز أو القلعة البرية في مدينة صيدا، التي كثيرا ما كانت تستعمل خلال سنوات الحرب كمواقع عسكرية، إلا أن السلطات اللبنانية المعنية شعرت بضرورة إعادة الاهتمام بهذا المعلم الأثري والتاريخي، وعملت على ترميم القلعة بتمويل من الحكومة الإيطالية بقيمة 650 ألف يورو بالتعاون مع مجلس الانماء والإعمار في لبنان وتحت إشراف وزارة الثقافة اللبنانية – المديرية العامة للآثار، حيث استعادت قلعة المعز دورها بعد إعادة ترميمها، لتكون معلماً تراثيا وسياحياً يشهد على مجد صيدا وعراقتها. وجرت عملية الترميم على مدى 8 أشهر وتضمنت إعادة ترميم الجدران والبوابات والأدراج وتنظيف مدخل القلعة والسراديب وسطح القلعة وإنارتها.
وتشكل قلعة المعز التاريخية معلما تراثيا، خاصة مع وجود المتحف الوطني الذي تم بناؤه قرب القلعة، كما يوجد متحف عودة ومنزل الرئيس رياض الصلح الملاصق للقلعة الذي حُوّل إلى متحف بدوره، والقلعة هي مدخل لأكبر متحف في مدينة صيدا. الداخل إلى قلعة المعز من مدخلها الغربي الشمالي، يواصل السير صعوداً باتجاه درج بارتفاع مترين، يليه سرداب غرب القلعة بطول 15 متراً، وإلى الشمال منه توجد غرفة مع قوس، وبالصعود عدة أدراج يصل الزائر إلى سطح القلعة، حيث يشاهد برجاً ضخماً مع قناطر رائعة الجمال تتميّز بالهندسة المعمارية التاريخية، ومن هناك يستطيع المرء مشاهدة معالم مدينة صيدا القديمة. رهبة خاصة يشعر بها الإنسان أمام قلعة المعز، فمداخلها وجدرانها تحكي حضارات أمم، كما تروي أبراجها العالية صلابة وعنوان أبناء مدينة صيدا في وجه الغزاة.
القدس العربي