في لقائهما الأول، رَوَت لي صديقتي أن الشخص الذي أصبح في ما بعد زوجها، ظنّ أنها تسخر منه بعدما لاحظ بأنها تقلّد لهجته، فأقسمت له بأنها تقوم بذلك من دون وعي منها، ولم تكن المرة الأولى التي يحصل معها ذلك، إذ ظنّ أحد محاوريها يومًا أنها من المنطقة التي ينتمي إليها كونها استنسخت لكنته الشمالية، عن غير قصد طبعًا، خلال حوارهما.
غالبًا ما يقطّب المرء حاجبيه عندما يرى شخصًا عابسًا، ويبادل غريبًا ابتسامة بمجرد أن يبتسم بوجهه، وتفتح الأم فمها عندما تطعم طفلها بالملعقة، ونشعر بالغضب من دون سبب عندما نرى تعابير وجه غاضب، ويجفل المشاهد عندما يتم إطلاق النار على ممثل في فيلم… فلماذا هذا التفاعل السلوكي مع الآخرين؟ وهل هذا يعني أن سلوك الإنسان وأخلاقه مكتسبة ولا تولد معه بالفطرة؟
إنّ قضية “الأخلاق بالفطرة”، على الرغم من أنه تمّ التطرّق إليها مرارًا وتكرارًا من الجانبين الديني والعلمي، لا زالت تأخذ حيّزًا مهمًا من قبل الباحثين والمتخصّصين في علم النفس والعلوم المعرفية، ففي حين رأى البعض أن سلوك الإنسان يولد معه، اعتبر فريق آخر بأنه يُكتسب من خلال تأثره بالبيئة التي ينتمي إليها، ورأى في النموذج الأبوي خير دليل على ذلك خاصة بعدما كشفت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين يخصّص أهلهم وقتًا أو مالًا لقضية معينة يميلون إلى التشبّه بهم والحذو حذوهم.
والأهل ليسوا وحدهم من يتمّ التشبّه بهم، بل يمكن للأصدق اء والزملاء والشخصيات العامة وغيرهم التأثير على من حولهم والتأثّر بهم، والسلوك يمكن أن يتغيّر من خلال ملاحظات الآخرين، وهذا ما يحدث مثلًا، عندما يرى الطفل شخصًا بالغًا يفتح بابًا لتسهيل مرور شخص مثقل بالأغراض، إذ إنه من المرجّح أن يتصرف هذا الطفل بالطريقة نفسها في موقف مماثل حتى لو كان والداه غير متعاونين.
وسواء كانت النماذج الموجودة في بيئتنا أخلاقية أو معادية للمجتمع، فهي تولّد سلوكيات مكتسبة، وذلك من خلال “مبدأ التقليد”، وهذا ما أظهرته مئات الدراسات التي رأت أن العامل الأول للجنوح عند الفرد هو مستوى الجنوح لدى من يخالطهم، فعندما يُطلب من تلميذ على سبيل المثال، الجلوس بجانب آخر يغش أثناء الامتحان، فمن المرجّح أن يصبح غشاشًا هو أيضًا في الامتحان التالي.
والتقليد كما هو عملية فطرية لدى البشر، قد يأتي بصورة تلقائية سواء كان من خلال وميض العين أو فتح الفم أو غيرها من تعابير الوجه وحركات الجسد، فالرُّضع مثلًا، ابتداءً من أسبوعهم العاشر، يصبح بإمكانهم تقليد تعابير الغضب أو السعادة المرتسمة على وجوه أمهاتهم.
إلا أنّ هذه القدرات قد تختلف حسب استعدادات الشخص، ففي حين يقلّد البعض محيطه بتفانٍ وسرور، يكون البعض الآخر أقل تقبّلًا.
والتقليد منتشر أيضًا بين الحيوانات والنباتات، فالحرباء تغيّر لونها مثلًا وفقًا للون الغصن التي تجلس عليه، وقد تكون قصّة الكاتب الفرنسي عن “خراف بانورج” التي هلكت كلّها بعدما لحقت بالخروف الأول للكاتب الفرنسي رابليه، خير مثال على ذلك.
إلا أنّ المفارقة تكمن في أن آليّة التقليد قد تعزّز التضامن والمشاركة الاجتماعية بين البشر، كيف؟
التقليد الإيجابي
بيّنت إحدى الدراسات أنّه حين طُلب من مجموعة من الأشخاص المشاركة في حملة تبرّع بالدم، سجّل ٢٥٪ من المتطوّعين أسماءهم إلا أن أحدًا منهم لم يحضر، لكن عندما أبدى أحد الأشخاص رغبة بالتبرّع أمام المشاركين بشكل علني سجّل ٦٧٪ من الأشخاص أسماءهم وحضر ٣٣٪ إلى مركز التبرّع.
وهذا ما أظهره أيضًا دايفيد فورمان من جامعة مينيسوتا في دراسته التي قام بها على مجموعة من الأمهات واطفالهن، إذ طلب من الأمهات القيام بحركات بسيطة عدة أمام أطفالهن، مثل ترتيب الألعاب أو ملء كوب من الماء، ثم شجّع الأطفال على تكرار هذه الأفعال، وكان بعضهم أكثر ميلًا لتقليد أمهاتهم من غيرهم. وبعد عامين، تبيّن أن الأطفال الذين قلّدوا أمهاتهم جيدًا كانوا أكثر احترامًا للمحظورات، مثل عدم لمس الألعاب الموضوعة على الطاولة وعدم فتح صندوق طُلب منهم تركه مغلقًا، وأظهروا مزيدًا من علامات الشعور بالذنب عندما كسروا لعبة قُدمت لهم والتي كان قد تمّ إعدادها أساسًا لتتحطم بمجرد أن يتم الإمساك بها.
قد ينطبق ذلك على ردود فعل المشاهدين أثناء متابعتهم لفيلم مثلًا، إذ يُلاحَظ الكثير من التقليد، فبمجرد أن يُظهر الممثل تعبيرًا حزينًا أو سعيدًا، يرتسم ذلك على وجه المشاهد من دون وعي منه، وهذا ما يسمّى بتشكل “ظواهر التزامن العاطفي”، حتى أن المشاهدين يراقبون خلسة مشاعر الآخرين من حولهم للتأكد مما يشعرون به تجاه هذا المشهد، ويقول فورمان: ” في أقل من خِمس الثانية، يستنسخ غالبية الأشخاص تعابير محاوريهم، سواء كانت حزنًا أو فرحًا أو إحراجًا أو اشمئزازًا أو حتى غمزة أو همسة…”
ولكن ماذا يحصل عندما تتعطل القدرة على فك شيفرة تعابير الوجه خصوصًا في ظلّ هذه الوجوه “المحنّطة” من جراء حقن البوتوكس المبالغ فيها، أو بسبب حالات الإفراط في تناول الكحول؟
يقول فورمان: “للأسف قد تزيد احتمالية أن تصبح التفاعلات بين الأفراد أكثر عدوانية، فقدرتنا على تقليد ما نراه هي شرط ضروري للتفاعلات الاجتماعية، وغيابه يحول دون العثور على أرضية مشتركة بين الأشخاص”.
تأثير المرآة
وهذا بالتحديد ما اكتشفه باحثون في جامعة بارما الإيطالية ح ول ما يعرف “بتأثير المرآة”، وهي خلايا عصبية تنشط عند مشاهدة شخص يقوم بفعل معيّن، كأن يعبّر عن اشمئزاز ما مثلًا وقد تمّ اكتشاف هذه الظاهرة لأول مرة لدى القرود، وسرعان ما تم دراستها لدى البشر، إذ تبيّن بأنه يؤدي إلى تنشيط نفس البنية في أدمغتهم (القشرة العزلية) التي تنشط عندما يشم المرء رائحة كريهة مثلًا، إذ يمكن أن يؤدي التقليد التلقائي لتعبيرات الوجه إلى إثارة مشاعر تتوافق مع تعبير المقلَّد.
وقد تمّ تطوير هذا المبدأ في أواخر القرن التاسع عشر مع عالم النفس والفيلسوف الأميركي وليام جيمس (١٨٤٢-١٩١٠)، تحت مسمّى “الإدراك الحركي”، والذي يقوم به الإنسان بمجرد رؤية أو تفكير أو تخيل فعل ما من قبل الآخرين، ويقول جيمس إنّ “قدرتنا على تقليد ما نراه يُعَدّ شرطًا ضروريًا للتفاعلات الاجتماعية، لكنها قد تختلف حسب الظروف، على سبيل المثال، عندما نكون في مواجهة شخص ما، نتبنى دون وعي طريقته في الكلام، حركاته، تعابير وجهه ووضعياته الجسدية. لكن هذا التقليد يكون أكثر أهمية عندما نُقدِّر محاورنا أو يكون في وضع اجتماعي متفوّق علينا، كما أنّ التقليد وسيلة لتحسين الصورة الذاتية، وهذا ما أكدته إحدى الدراسات حين تمّ تدريب متطوعين على تقليد – أو عدم تقليد – الإشارات غير اللفظية (مثل تقاطع الأرجل أو لمس الوجه) لشخص معين، ثم تمّ قياس مدى “جاذبيتهم” لهؤلاء الأشخاص، إذ أظهر هؤلاء تفضيلًا أكبر للأشخاص الذين قاموا بتقليدهم، وكذلك تبيّن أنّ روّاد المطاعم يميلون إلى إعطاء إكرامية أكبر للنادل الذي يكرّر الطلب حرفيًا.
وطالما التقليد يعزّز الروابط بين البشر إلى هذا الحدّ ويعدّ اسمنتًا اجتماعيًا يسهم في نقل القيم الأخلاقية، وبما أننا نتأثر إلى هذا الحدّ بسلوك وأخلاق معارفنا والمحيطين بنا، فلماذا إذن لا نحيط أنفسنا بأفراد يتحلّون بالمحبّة والتضحية والتعاون وحسن النيّة، فنكتسب ذلك منهم… بالعدوى؟