رياض قهوجي
تتنافس الدول في ما بينها في مجالات عدة، ومنها تحقيق قوة عسكرية أكبر من خصومها، أو أقله معادلة لها. فإن لم يكن تحقيق التفوق ممكناً لأسباب عدة، يصبح الهدف تحقيق التوازن. وهذا ما تسعى إيران، منفردة أو مع محور الممانعة، إلى تحقيقه منذ سنوات مقابل إسرائيل. لكن التقدّم التكنولوجي الكبير والدعم العسكري غير المحدود من الغرب (تحديداً أميركا) الذي تتمتع به إسرائيل، جعلا مهمّة طهران وحلفائها صعبة المنال. فالعقوبات الدولية، ومن ثم الأميركية، حدّت بشكل كبير من قدرات إيران المالية، ومن قدرتها على الحصول على أحدث التكنولوجيا. ولجأت إيران إلى تطوير قدراتها الدفاعية الذاتية واعتماد استراتيجية الحرب غير المتكافئة في التعامل مع إسرائيل وأميركا. والأهم من ذلك، تبنّت طهران مقاربة إعلامية مهمّة جداً في تحقيق التوازن مع إسرائيل، لتقدّم نفسها لجمهور المقاومة على أنها قوة ندّية ليس لإسرائيل فحسب، بل للولايات المتحدة الأميركية. فلجأت إلى سياسة خلّاقة سعت عبر وسائل مختلفة إلى نشر انطباع لدى جمهورها وحتى جمهور خصومها بأنها تملك قدرات عسكرية رادعة.
عملت طهران جاهدة على بناء قوة عسكرية مهمّة رغم العقوبات والصعوبات. لكن تبقى معظم ترسانتها مكونة من تكنولوجيا منظومات تعود إلى القرن الماضي استطاعت تحديثها إنما بشكل محدود، وهي تبقى متأخّرة جداً عمّا هو في ترسانات القوى الغربية. لكن، بالرغم من ذلك، تمكنت طهران من إشاعة “وهم القوة” عبر خطوات ذكية وفعّالة. فمن أجل أن تقنع العالم بأنها تملك قدرات دفاعية ذاتية رادعة، كان عليها بناء ترسانة كبيرة من الأسلحة، وتُظهرها بكميات ضخمة ومضخّمة. ولتبني هيبة الردع، لجأت إلى عمليات استفزازية نفّذتها بشكل مباشر أو عبر وكلائها، إنما بحجم لا يجد فيه الخصم نفسه ملزماً دخول حرب معها، وهي مقاربة تُعرف أحياناً بسياسة “حافّة الهاوية”. وطبعاً، لا يمكن إقناع القاعدة الشعبية لمحور الممانعة وحتى جمهور خصومها بقوتها الرادعة من دون قدرات إعلامية محترفة، تمكّنها من تسويق مكانة إيران كقوة عسكرية والسيطرة على الرواية. ويمتلك محور الممانعة جيوشاً إلكترونية ووسائل إعلامية مكّنته من تكوين جمهور واسع ضمن أماكن تواجده، ما وفّر له بيئة أيديولوجية حاضنة.
وكانت إيران قد حصلت على تكنولوجيا صواريخ تعود إلى النصف الثاني من القرن العشرين من روسيا والصين وكوريا الشمالية. وبعد هندسة عكسية، بدأت بإنتاج صواريخ بالستية وجوّالة بمسميات جديدة، يحمل معظمها معاني دينية من القرآن الكريم وتاريخ المذهب الشيعي. فعلى سبيل المثال، تقوم بزيادة طول صاروخ بالستي وتزيد من كمية الوقود أو تعدل وزن رأسه الحربي وتعيد تصنيعه تحت اسم جديد. فصاروخ “شهاب - 1” هو هندسة عكسية لصاروخ “سكود – بي”، وبعد زيادة طوله مثل “سكود – سي” بات يُعرف باسم “شهاب – 2”. وصنعت إيران صاروخ “فروغ – 7” السوفياتي تحت مسمّى “زلزال – 2”. وبعد أن زادت من طوله وأدخلت عليه منظومة توجيه صينية الصنع، بات صاروخاً بالستياً يُعرف باسم “فاتح – 110”، وهو الطراز الذي يمتلك “حزب الله” بعضاً منه، بحسب أجهزة استخبارية دولية. وبعد زيادة حجم الوقود في الصاروخ، ازداد مداه وبات يُعرف باسم “فاتح – 313”. هناك أمثلة أخرى على شكل تطور ترسانة إيران الصاروخية، البالستية والجوالة، وتملك إيران أعداداً كبيرة منها، وتقوم بإطلاق أعداد كبيرة منها في مناوراتها بشكل يُظهرها قوة عسكرية خارقة.
كذلك، استثمرت إيران في بناء تشكيلة مهمّة من المسيّرات ذات المهمّات المتعددة، بخاصة الانتحارية منها وبكميات كبيرة. ورغم تمكن إيران من إنجاز هندسة عكسية لإحدى الطائرات الحربية الأميركية الصنع وتحديداً “أف – 5”، فإن تكنولوجيا الطائرات الحربية تقدّمت كثيراً عمّا كانت تملكه إيران، ولم تعد تضاهي ما يصنعه الغرب حالياً. كما أن تكنولوجيا تصنيع الطائرات الحربية الحديثة أكثر تعقيداً بأشواط كبيرة من تصنيع صواريخ بالستية وجوالة. لذلك، ركّزت إيران على بناء الصواريخ بأنواعها والمسيّرات بأعداد كبيرة، لتزيد من قدرتها على اختراق دفاعات خصومها، والوصول إلى أهداف بعيدة.
لكن، في الحروب، لا يتمّ احتساب ما يتمّ إطلاقه من قذائف وصواريخ بقدر ما يتمّ احتساب ما تستطيع هذه المقذوفات أن تصيب وتدمّر فعلاً. وشهد العالم على ذلك يومي 13 و14 نيسان (أبريل) الماضي عندما أطلقت إيران أكثر من 300 صاروخ ومسيّرة، سقط وأُسقط غالبيتها، وبالكاد خلّفت أي خسائر نتيجة التفوق التكنولوجي الإسرائيلي - الأميركي الذي وفّر شبكة دفاع جوي ناجحة. هذا في حين أن الردّ الإسرائيلي كان في غارة جوية صغيرة أطلق خلالها ثلاثة صواريخ فقط دمّرت منصة رادار لمنظومة دفاع جوي طراز “أس – 300” قرب منشأة نووية إيرانية. فهذه المنظومة لم تستطع رصد وتدمير ما صُمّمت لفعله. كما أن “حزب الله” يطلق عشرات الدفعات من الصواريخ – “كاتيوشا” و”غراد” و”فالق” و”بركان” وما شابه – إلّا أن عدد إصابتها قليل جداً نتيجة الدفاعات الجوية مثل القبة الحديدية. ويُقدّر ما أطلقه الحزب منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بنحو 7500 صاروخ. لكن حجم الدمار الذي حققته الصواريخ التي نجحت بإصابة أهداف يبقى متواضعاً جداً أمام قنبلة ذكية واحدة زنة 450 أو 900 كلغ من مقاتلة حربية إسرائيلية تدمّر مبنى من طبقات عدة بشكل تام. ومجدداً، العبرة ليست في عدد الصواريخ والمسيّرات، انما بالنتائج والفعالية والدقّة.
هنا يأتي دور الإعلام في جانبي النزاع في تسويق قوة إيران ومحور الممانعة، إنما كلٌّ لأسبابه وأهدافه الخاصة. فطبعاً، يملك محور الممانعة جيوشاً إلكترونية منظّمة على وسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى وسائل إعلام تقليدية، تعمل بشكل ممنهج على تسويق رواياتها عن كل عملية هجومية يقوم بها المحور، متحدثة عن خسائر وإصابات كبيرة. فهي حتى الآن تتحدث عن خسائر جسيمة لحقت بإسرائيل نتيجة الضربة الإيرانية في نيسان (أبريل) الماضي رغم الوقائع المغايرة. أما في المقلب الآخر، فإن الإعلام الإسرائيلي يريد تضخيم حجم تهديد محور الممانعة رغم محدودية الأضرار التي لحقت به فعلاً، ومردّ ذلك استدراج التعاطف الدولي، وتحديداً الغربي، من أجل استمرار تدفق الأموال والسلاح إلى الدولة العبرية. كما أن الشعب الإسرائيلي غير معتاد على تهديد الجبهة الداخلية، ولا يزال مصدوماً من هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والحكومة تعمل على تعزيز ثقة المجتمع بها وبجيشها، لذلك تفعّل صفارات الإنذار لإرسال المدنيين للملاجئ عند رصد أي صواريخ متّجهة لأراضيها، وهذا ما يتابعه الإعلام غالباً، وكلٌ يقدمه بحسب روايته. طبعاً، الحديث بموضوعية وواقعية عن قدرات إيران العسكرية مرفوض من قوى الممانعة، وكل من يشكّك بها يُتهم بالخيانة.
بعد كل ما تقدّم، يجب التوقف عند الفارق بين ردّة فعل باكستان على الهجوم الإيراني على أراضيها، ومقارنته بردّة فعل إسرائيل. فباكستان لم تخش التهديد الإيراني، وحشدت جيشها وردّت قواتها بالمثل خلال 24 ساعة في عمق الأراضي الإيرانية. وكانت النتيجة سرعة تحرّك طهران لاحتواء النزاع ووقفه فوراً مع إسلام أباد. فلماذا باكستان، ومن دون تدخّل أساطيل أميركا وقوى الغرب، لم تخش القوة الإيرانية وردّت فوراً وبفعالية، في حين أن إسرائيل، وهي قوة نووية مثل باكستان وتملك تكنولوجيا دفاعية أكثر تقدماً وأسلحة أكثر حداثة ومحمية أميركياً، تظهر عبر إعلامها والإعلام الغربي على أنها تعيش في خوف من إيران ووكلائها؟ لماذا سمحت واشنطن لطهران باستهداف قواعدها في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني بدلاً من أن تهدّد إيران بردّ كبير أو بحرب للحفاظ على هيبة ردعها؟
قد تكون هناك أجوبة واحتمالات عدة، من بينها إمكانية وجود عملية تضخيم لقوة إيران وتسويقها من جهات غربية على أنها قوة عظمى. وقد يكون الأمر أن أميركا لا تريد الانزلاق إلى حرب مع إيران ووكلائها، وطهران تستغل ذلك لتوجيه ضربات عبر وكلائها لكسر هيبة الردع الأميركية وإظهارها قوة ندية لها. في عالم السياسة، الانطباع الذي يمكن خلقه والرواية التي يمكن تسويقها هما ما يؤثر في الرأي العام، وليس الوقائع.
النهار العربي