هذه تأملات غير علمية في مسارات الربيع العربي ستقع بين يدي قارئ مزايد؛ يظن أن اختيار الموضوع العام هو هروب جبان من الكتابة عن الخراب السياسي الذي سببته الانقلابات عن الربيع العربي. إني أكتبها لأتخلص من مثل هؤلاء القراء المزايدين بالشجاعة من وراء الحواسيب، وإذ أتحرر منهم أضع على طاولة المفكرين جملة قابلة للتحول إلى أطروحات بحث. الثورة التي لا تكتب نصها الأدبي تموت، هنا أستشعر تعسفا على الزمن، فالثورة لا تزال تحبو ولم تنضج لتكتب، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار تراثا أدبيا وفنيا طويلا يغطي فترة زمنية تمتد من عصر النهضة العربي إلى اللحظة الراهنة؛ فإن تراكمات كثيرة تقوم مقام قاعدة تفكير وتأمل وكتابة لم يتم البناء عليها بعد. وتأخر نص جديد لثورة جديدة يعتبر إخلافا لموعد عبقري مع الفن والتاريخ؛ لماذا لم ينتج الربيع العربي نصه الأدبي بعد؟ نبحث عن إجابة.
اطلعت على بعض ما كُتب وفاتني الكثير
لست المراقب الناقد فجهد القراءة أقل من دفق النصوص، لكن ما اطلعت عليه من النصوص الروائية والشعرية التونسية بالذات لم يشف غليلي إلى نص يفسر الثورة ويضعها في سياقها ويستشرف آفاقها. ظهرت نصوص حرص أصحابها على إبراز دورهم ومشاركتهم في الثورة كنوع من تمجيد الذات المثقفة الثائرة، وقد كان ذلك في فترة زمنية لاحقة للثورة زعم فيها كل كاتب أنه كان يقود الثورة بمفرده وأن الجماهير كانت وراءه (ولم نكن سمعنا له صوتا قبلها).
تسيطر عليّ لحظة مقارنة بين منتج ثورة 1919 المصرية الأدبي والفني وبين منتج ثورة 2011 العربية، وأجد فرقا كبيرا كميا ونوعيا إلى حد القول إننا لا نزال نعيش بذلك المنتج غير القابل للتجدد.
لقد اقتحَمَنا مغنو الراب والموضات الغنائية الجديدة قبل الثورة، ومدّ هؤلاء سيقانهم في الفضاء العام بعد الثورة كما لو أنهم الفن الوحيد، واستشعرنا منذ البداية تواطؤا غير بريء بين إعلام صُنع قبل الثورة وبين هذا النوع من الفن تحت مسمى التجديد والتحديث الفني، وكانت من نتيجته إغلاق الفضاء دون أي فكرة أو جملة فنية تبني على التراث العربي الفني الذي نشأ قبل ثورة 19 وتوسع بعدها حتى وحد الذائقة العربية. نوشك أن نرى مؤامرة فنية على ربط اللحظة الثورية فنيا ب تراث العرب الفني (الغنائي منه خاصة).
يعسر علينا إصدار حكم فني على موسيقى الراب وتفريعاتها وآليات التلقي الفني عند الأجيال الجديدة (وهي أجيال من الذوق مصنوعة بقوة الطرق الإعلامي بالمنتج الوحيد أو البضاعة الواحدة)، ولكن لم نرَ أغنية منها صمدت لسنة في وجه توالد هذا الفن من بعضه إلى حد التطابق والتناسخ.
وجب أن أحترز قليلا عن المنتج السينمائي لما بعد 2011 لأني لم أتابع كل ما صُوِّر وبُثّ، ولكن لم يقتحمنا خبر عمل سينمائي يدفئ برودنا إزاء السينما العربية ما بعد الثورة. ولا نظنها إلا سادرة في مواضيعها الأثيرة، والتي ذكّرتنا دوما بهوامش السينما الفرنسية ومواضيعها الحداثوية.
أدب السجون بديل البكّائين وأهل الكدية
أتعسف على كثير ممن دخلوا سجون الأنظمة العربية ثم حررتهم الثورة فغرقوا في سرد تجاربهم بلغة باكية ونواح كثير مع رغبة في الانتقام، ولم تخل نصوص كثيرة من طلب الجزاء من السلطة الناشئة بالثورة بمنطق “لقد تعذبت من أجلكم فادفعوا لي أجري جزيلا”. لقد أثبت الكثير منهم قدرة كبيرة على التخيل لإعادة بناء الوقائع، لكن مجمل نص أدب السجون العربي بعد 2011 مجرد موضة أدبية (شارك فيها حتى من تلقّى صفعة من شرطي بغيض من أجل مخالفة مرورية).
اتجاه عام في أدب السجون العربي ما بعد 2011 يضعني أمام نص طللي متكرر إلى حد الملل؛ يبكي الماضي ويحزن لحاضر لم يكن بقدر النضال المدفوع مسبقا (ويستوي في ذلك كل نص كتبه إسلامي ويساري). هناك مَنٌّ كثير على الجمهور من قبل المناضلين من كل الاتجاهات السياسية، ولم نر في هذا نصا مستقبليا يفسر ويبني ويستشرف، إنما استعادة للآلام وطلب للجزاء؛ إن لم يكن ماديا فعلى الأقل الاعتراف والشكر. وقد حد هذا من انتشار هذا التراث الأدبي بين الناس، خصوصا أن بعض المعذبين رفضوا الثورة لأسباب أيديولوجية استئصالية دون وعي بأنهم يستعيدون أسباب عذاباتهم الأولى بتمجيد الدكتاتورية العائدة، وهو ما يكشف أنهم لم يعوا شيئا من معاناتهم السابقة، ما يضعهم خارج انتظارات النص الثوري والأدبي عامة (باعتباره نصا واعيا).
اليسار الحزين يسيطر على حقول الفن والأدب
هناك ما يشبه التملك الحصري للأدب خاصة والفن عامة من قبل من يعلنون الانتماء لليسار العربي ولتيار التحديث، وهم بارعون في مكايدة أعدائهم الإسلاميين الغرباء عن حقول الأدب والفن. غربة الإسلاميين عامة عن مجال الفنون واقع لا تخفف منه بعض الاستثناءات، لكن تملّك اليسار للفنون والإضافة إليها لا يخرج فيما اطلعت عليه (وهو كثير ويمكنني أن أفخر كقارئ متابع محترف) عن طلليات جاهلية لا تبكي الناقة والمربع والحبيبة المستحيل ة، إنما تبكي وضعا غير ذي ملامح لم يجد فيه اليساري العربي بغيته فرثاه وناح على أطلاله الذي لم يقف عليه يوما (وفيه كثير يتضمن معنى وحيدا أشركوني في مباهجكم سأصمت).
منذ نكبة الناصرية في العام 67 تخصص اليسار العربي في النواح على أمة عربية لا يؤمن بها وبروليتاريا لا يقف معها ضد وحشية حكومات المناولة، وإنما يأكل بلحمها رزقا ويشرب نبيذا مدعوما من حكومات المناولة ويسوّق للجمهور أسطورة اليسار رب الأدب والفن، فلما وقعت عليه الثورة خانها ووقف مع السيسي وحفتر وبشار وقيس سعيد ولم يكتب النص الذي ينتظر الجمهور المغبون، وبلغت به المسكنة أن دافع عن المَلَكيات الرجعية في الخليج وهو الذي ربّانا على أنها حكومات من الخونة والعملاء.
لم يعد لليسار العربي نص يكتبه، لقد صفاه الربيع العربي وأركسه في تواطؤه ضد الحريات وضد كل فكرة تغيير، بما يعيدنا إلى نقطة الانطلاق؛ غياب النص الثوري العربي المحلل والمستشرف للمستقبل. لن ننتظر هذا النص من اليسار العربي ولم ننتظره من الإسلاميين وفيهم كثير مشغول بتفاصيل عذاب القبر قبل عذابات الحياة اليومية على الأرض، ولم يولد القوميون العرب بنص أدبي إنما وُلدوا ببيان عسكري يفتح الطريق للدبابة، فهم آخر من يعوَّل عليه في الإبداع، فالقول عندهم ما تقوله فوهة المدفع الموجه لصدور البؤساء.
هل نغلق المتجر؟
لن نفعل، سننتظر النص الخارج من قلب الربيع العربي، سيكتبه قلم غير ملوث بالأيديولوجيا، نحن قرّاء أولا وربما يسعفنا الخيال بالنص المنتظر فنكتبه لكننا لن نزعم قيادة هذا الطموح. كل ثورة تنتج نصها الإبداعي، ولا إبداع إلا بالتفاؤل بمستقبل. متى؟ وكيف؟ لست قادرا على الإجابة ولكني ألتقط مؤشرات. هناك نفور من النُواح وهناك قرف من الطلليات المستعادة منذ ألفي عام رغم اندثار الناقة والخيمة، لنعتمد على هذا النفور الجيلي ونرتب وضع القراءة الناقدة. سيولد هذا النص مع الثورة التي لم تطمسها الانقلابات، ولكنها تعد موجتها القادمة، وهذه جملة أدبية يمكن أن تكون بداية نص عبقري.. لن تموت الثورة العربية في تونس ولو حكم قيس سعيد مائة عام وسانده اليسار التونسي بثمن من النبيذ المدعوم.. هذا قدر فني قبل أن يكون قدرا سياسيا.
عربي 21