عندما أقدمت جهات لبنانيّة، قبل سنوات على ترشيح نوّاف سلام لرئاسة الحكومة اللبنانيّة، شنّت “جبهة المقاومة” هجومًا عليه، واصفة إيّاه بأنّه صهيوني-أميركي، وعندما انتخبه، أمس الأوّل، زملاؤه القضاة رئيسًا لمحكمة العدل الدولية لولاية تستمر ثلاث سنوات، شنّت إسرائيل حملة ضده على اعتباره معاديًا لها وللسامية !
وهذه ليست المرّة الاولى التي يلتقي فيها هذان الطرفان المتحاربان في النظرة العدائية الى شخصية أو جهة، فهما، وفق ما بيّنت التجارب، يجتمعان على محاربة الإعتدال والرصانة والإنفتاح!
وإذا كانت “جبهة المقاومة” تعادي الشخصيات المستقلة التي تعتبر الدستور مرجعية والقانون منارة والإعتدال سلوكًا والعقلانية خيارًا، فإنّ إسرائيل طالما اعتبرت أنّ كلّ عربي يُحسن مخاطبة العقول والإسترشاد بالقانون والتفاعل مع الغرب والإيمان بالإعتدال، عدوًّا، لأنّه، بالمحصلة، يقدم الى الواجهة حقيقة تناقض الصورة النمطية التي جهدت اللوبيات الصهيونية في صناعتها على مدى عقود طويلة.
إنّ ردات الفعل على انتخاب نوّاف سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدوليّة، بعد سنوات من تلك التي صدرت بعد ترشيحه لرئاسة الحكومة اللبنانيّة، تُظهر التقاطع الخطر بين إسرائيل من جهة و”جبهة المقاومة” من جهة أخرى، فهذا الطرفان يفعلان كل شيء ليحتكرا الصورة والمسرح والواقع.
وفي حقيقة الأمر، إنّ ترشيح نوّاف سلام لرئاسة الحكومة اللبنانيّة، قبل سنوات، لم يكن إلّا لاقتناع من بلور هذا الطرح، بأنّه قادر على صناعة الحد الأدنى من التفاهمات بين الأطراف اللبنانيّة لما فيه خدمة المصلحة العليا بما يراعي الدستور، نصًا وروحًا.
ومن كان قد بلور هذا الطرح، حاول أن يستجيب لرغبة عارمة عبّر عنها اللبنانيّون، لجهة حاجتهم الى شخصيات لا توزع دولتهم حصصًا على موائد الفساد.
هذا كان في بيروت، أمّا في لاهاي، فلم يكن يعقل أن ينتخب القضاة نوّاف سلام رئيسًا لمحكتهم، لو لم يجدوا فيه، على مدى السنوات التي عملوا فيها معه، طينة القاضي الدولي الذي يفصل بين قناعاته والأدلة، بين أهوائه والقانون، وبين اندفاعاته والحقيقة.
ولا يمكن أن تجد في هذه الدنيا قاضيًا واحدًا، وخصوصًا في منتديات العدالة الدولية، “من دون طعم أو لون”، لكنّ ما يميّز القاضي الممتاز عن القاضي السيّئ هو أن الأوّل يضع كل ذلك جانبًا لمصلحة العدالة في حين أنّ الثاني يضع العدالة جانبًا لمصلحة الأهواء.
قضاة محكمة العدل الدولية حين صوّتوا لنوّاف سلام صوّتوا لهذه العلامة الفارقة التي اختبروها فيه.
وكما أنّ هجوم “جبهة المقاومة” على نوّاف سلام أظهرها على حقيقتها، كلاهثة وراء الأشخاص الذين يمكن أن يخدموا مصالحها على حساب المصلحة الوطنية العليا، كذلك هجوم إسرائيل على انتخاب سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدولية، أظهرها دولة تريد أن تستغلّ أيّ شيء من أجل أن تبقى فوق الحساب وأقوى من القانون، وهي التي تواجه دعوى خرق اتفاقية الإبادة الجماعية في حربها في قطاع غزة.
على أيّ حال، فإنّ انتخاب نوّاف سلام رئيسًا لمحكمة العدل الدوليّة، وبعيدًا من “الهوس الإسرائيلي”، يسلّط الضوء على صنّاع القرار في لبنان، فهم مهووسون باختيار”الزلم” على حساب الرجال.
الفارق بين “الزلم” والرجال كبير جدًا. “الزلم” قد يكونون من حملة الشهادات العليا ولكن تنقصهم ا لقدرة على الفصل بين الحق والباطل. الرجال قد لا يكونون، بالضرورة، من حملة هذه الشهادات، ولكنّهم يمتازون بالتضحية بكل المناصب من أجل النطق بالحق.
نوّاف سلام من هؤلاء الرجال!