أطلق “حزب الله” قبل أكثر من عشرة أيّام معادلة حربية سمّاها “إيلام العدو”. تقوم هذه المعادلة، وفق ما شرحها نائب الأمين العام ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم على قصف المدن الإسرائيلية بقوة، وبوتيرة من شأنها أن تحوّل الوضع في مدينة حيفا الى ما هي عليه الحال في مدينة كريات شمونة القريبة من الحدود اللبنانية. وما إن أنهى قاسم الحديث عن معادلته هذه حتى سارعت “المقاومة الإسلامية في لبنان” إلى الإعلان عن إدخال الصواريخ الدقيقة في الحرب، والإنتقال الى مرحلة جديدة من المعركة المفتوحة، طالبة من سكان عكا وحيفا وغيرهما إخلاء منازلهم، على اعتبار أنّ الجيش الإسرائيلي يستعملها كمخبأ لجنوده، وبالتالي فطريقة التعامل معها لن تختلف أبدًا عن طريقة ا لتعاطي ليس مع كريات شمونة فحسب بل مع المطلة أيضًا.
لكنّ المفارقة أنّه منذ هذه الإعلانات المتتالية عن معادلة “إيلام العدو” ومرفقاتها، لم يتغيّر شيء على مستوى الجبهة الداخلية، ولولا المسيّرات الانتحارية، بما تملكه من قدرات تعينها على التفلّت، بنسبة ثمانين في المائة، من تصدي “القبة الحديدية”، لما كان هناك، في الواقع أيّ إيذاء. وعلى الرغم من تفوّق هذه الطائرات من دون طيار، فإنّ “المقاومة الإسلامية في لبنان” تقتصد كثيرًا في استعمالها.
في المقابل، فإنّ إسرائيل، ومنذ تفعيل “حزب الله” لمعادلة “إيلام العدو”، إنتقلت الى معادلة “تدمير العدو”. لم تعد “سهام الشمال”، وفق التسمية التي أطلقها الجيش الإسرائيلي على الحرب ضد “حزب الله”، محصورة بتوفير الظروف الآمنة لإعادة سكان الشمال الى منازلهم، بل توسعت الى مستوى حرمان “حزب الله” من كل مقوماته العسكرية، والأمنية، والمالية، والمدنية.
حتى تاريخه، لم توفر إسرائيل في استهداف “حزب الله” سوى المستوى السياسي فيه، فهي تحيّد، بشكل لافت للإنتباه، كتلته النيابية التي ينتقل أعضاء فيها الى المجلس النيابي لعقد اجتماعات ومؤتمرات صحافية، فيما يطل الآخرون، من خلال هواتفهم الخلوية الموصوفة بالجواسيس، لإجراء مقابلات إعلامية. ولم يستغل الجيش الإسرائيلي ما سمي بمحاولة اغتيال بنيامين نتنياهو، وهو أعلى مرجعية دستورية في الكيان العبري، من أجل بناء شرعية استهداف المستوى السياسي في “حزب الله”، بل استعمله حجة، من أجل توسيع شرعية استهدافاته في إيران، إذ إنّه سارع الى اتهامها هي بالضلوع بإرسال مسيّرة الى منزل رئيس حكومتها!
ولا تُبدي الشروط التي وضعها بنيامين نتنياهو للموافقة على وقف إطلاق النار في لبنان، وحملها الى بيروت، الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، أنّ إسرائيل راغبة، أقلّه في الوقت الحاضر، بحل دبلوماسي، إذ إنّها تطالب بما لا قدرة على “حزب الله” على الموافقة عليه، أقلّه حتى اتضاح المدى الذي ستصل إليه “ميني الحرب” التي تخوضها إسرائيل ضد إيران: الإستسلام التام!
ويستغل الجيش الإسرائيلي فترة “صمود حزب الله” ليُكمل تدمير بنيته التحتية والفوقية، حتى إنّه وصل الى “مؤسسة القرض الحسن”، وهي، في الواقع، مصرف “حزب الله” الذي ازدهر كثيرًا في فترة انهيار القطاع المصرفي في لبنان. وعبر هذا المصرف يتبادل “حزب الله” وبيئته الخدمات. هذه البيئة توفر للحزب الذهب والجواهر والتحف وخلاف ذلك من الأشياء الثمينة المشروع بيعها، وهو في المقابل يوفّر لها المال النقدي الذي بحوزته، ولا يستطيع إدخاله ضمن النظام المالي الطبيعي، بفعل العقو بات الدولية المفروضة عليه من جهة، وبفعل مصادر الأموال، من جهة أخرى.
ولا يكتفي الجيش الإسرائيلي بذلك، بل نجح في تحويل كل من له صلة ب”حزب الله” الى وبال على المجتمع الشيعي خصوصا وعلى المجتمع اللبناني عمومًا، بحيث أصبح الجميع يخشون من حضوره هؤلاء المحازبين بينهم، ويعملون، كل ما يمكنه فعله، من أجل عزلهم. وبذلك أصبح من كانوا أسياد مجتمعهم، من دون مأوى، حتى لو كان خيمة بين المدنيين.
ولم تعد إسرائيل تستهدف الضاحية الجنوبية لبيروت لتحقيق غايات عسكرية مباشرة، بل أدخلتها ضمن معادلة “إيلام العدو”، إذ مقابل ما يمكن أن يسقط من مسيرات أو صواريخ في عكا وصفد وحيفا يتم إسقاط أبنية في الضاحية الجنوبية!
مشكلة “حزب الله” الحقيقية في هذه الحرب، مثلها مثل مشكلة “حماس”، تكمن في أنّ إسرائيل، للمرة الأولى منذ تأسيسها، وضعت جانبًا “عامل الوقت”. قوة “حزب الله” وقبله “حماس” كانت تكمن في أنّ إسرائيل “تعمل على الساعة”، فهي، عندما تبدأ أي حرب، تباشر صراعها القوي ضد عقارب الساعة، فإذا نجحت، ضمن المهلة المعقولة، كان به، وإلّا فإنها تتراجع الى “تسوية معقولة”.
في هذه الحرب، حطمت إسرائيل الساعة الرملية، تعاطت مع ما يحصل في غزة ولبنان، كما تعاطت مع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية التي قادتها “حماس”، من خلال الإنتحاريين.
كانت الساعة أكبر حليف ل”حزب الله” و”حماس”، إذ يكفي لأيّ منهما أن يضبط معركته على معادلة الصمود، حتى ينفد وقت إسرائيل، فتضطر الى وقف الحرب، ويسارع خو الى إعلان انتصاره. هذا حصل دائمًا في غزة. وهذا حصل في “حرب لبنان الثانية” في لبنان.
وفي حروب تفعيل الوقت، كانت معادلة “إيلام العدو” ممتازة، ولكنّها، في حروب تحطيم الساعة، فإنّ هذه المعادلة تسقط لمصلحة معادلة الأقوى، وهي “تمير العدو”.