قبل أن يعلق رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري عمله السياسي، في كلمة ألقاها، في “بيت الوسط” في الرابع والعشرين من كانون الثاني 2022، أطلّ بين العامين 2016 و2020 مرتين على اللبنانيّين، معلنًا، أنّهم سوف يتعرّفون على نسخة جديدة منه، مستعملًا لغة تتماهى مع تلك التي تستعملها شركات الهاتف في إعلاناتها.
قبل أن يتخلّى الحريري عن “السكسوكة” في العام 2016 لمصلحة اللحية، لم يكن يتحدث عن نسخ جديدة منه، مع أنّه لم يكن يشير الى شكله الخارجي بل إلى طريقة تفكيره، فهو مثلًا، أهمل تحالف 14 آذار، لمصلحة تسوية مباشرة مع “التيار الوطني الحر” وتفاهم “غير مباشر” مع “حزب الله، ومن ثم تدهورت علاقته بحزبي “القوات اللبنانية” و”التقدمي الإشتراكي” لمصلحة تعميقها مع “التيار الوطني الحر” ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وخلفهما بطبيعة الحال “الحليف القائد”.
حاليًّا وقد أدخل الحريري، كما في العام 2016، تعديلات على مظهره الخارجي، بحيث تخلّى عن الشعر الطويل لمصلحة الشعر القصير، وفضّل “النحول الرياضي” على “التضخم العضلي”، قد نكون، للمرة الثالثة، أمام نسخة مطوّرة جديدة من سيّد “بيت الوسط”.
النسختان المعدّلتان السابقتان لم تخدما الرئيس سعد الحريري. العكس هو الصحيح، إذ إنهما رميتاه في يأس عميم، فتعليق العمل السياسي ليس تخليًّا طوعيًّا عن القمة، بل هو تدحرج قسري نحو الهاوية.
نحن على قناعة بأنّ الحريري، سواء أعلن ذلك حاليًا أو أرجأه الى وقت لاحق، يريد أن يستعيد ما خسره في لبنان والإقليم والعالم، كما نحن على ثقة بأنّ في لبنان والإقليم والعالم من يريد أن يعود سعد الحريري الى وطنه ويأخذ مكانته ويقوم بمهامه السياسيّة.
ولكن، لينجح في ذلك، عليه أن يقبل بإجراء مراجعة عميقة لنهجه وليس ل”طرازه”.
مشكلة الحريري الأولى مع النخب في لبنان، لا تكمن لا في مواقفه ولا في إطلالاته ولا في تطلعاته ولا في رؤاه، بل في تعامله مع البلاد، إذ إنّه كلّما خرج من السراي الحكومي يخرج من لبنان. هذا كان يحصل قبل تعليق عمله ال سياسي أيضًا. إنّ ما يحفظ سعد الحريري سياسيًّا هو حجم العاطفة التي تختزنها له شريحة واسعة من اللبنانيين عمومًا والسنة خصوصًا، ولكن ما يقض مضاجعه عندما يعود الى البلاد أنّ خصومه قادرون على زعزعة هذه العاطفة بما يطلقونه من انتقادات تركز على نقاط ضعفه في علاقاته غير المستقرة بناسه. وكم من مرة سمع الحريري من أكثر من كانوا يحبّونه أنّه لا يمكن قيادة العمل السياسي ب”دوام جزئي”، لأنّ “الدوام الكامل” بالكاد يكفي!
وعلى الرئيس سعد الحريري أن يثبت أنّه زعيم قائد، سواء كان في السلطة أو في المعارضة. والده الرئيس رفيق الحريري الذي نحيي ذكرى استشهاده، في هذه الأيّام، كان يصلّب زعامته بالمعارضة، كلّما أصابته السلطة بأمراضها.
ولبنان، شاء من شاء ورفض من رفض، ليس بحاجة الى رجال سلطة، بل هو بحاجة الى رجال معارضة. السلطة، سواء كانت مكتملة أو تعاني من الشغور، ليست سلطة لأنّ “حزب الله” يسطو على صلاحياتها السيادية وعلى مؤسساتها العسكرية ويفرض إرادته على أجهزتها القضائية والأمنية. بالنسبة للبنانيين “حزب الله” هو السلطة القائمة في حين يلعب رؤساء الجمهورية ومجلسي النواب والوزراء الأدوار التي يتركها لهم. هناك حاجة الى من يقود معارضة صلبة وحقيقية ضد هذه السلطة الرسميّة وغير الرسميّة.
وليس هامشيًّا تذكير الجميع بأنّ الإنهيار المالي والإقتصادي والحياتي في لبنان، حصل فيما كانت السلطة مكتملة ويملؤها من يتم وصفهم بأقوياء طوائفهم!
ولم يكتسب الرئيس سعد الحريري موقعه في الوجدان الوطني لأنّه “ربط النزاع” مع “حزب الله”. العكس هو الصحيح، إذ إنّ هذا الربط أوصله الى اليأس والى إعلان 24 كانون الثاني 2022. والإشتباك السيادي مع “حزب الله” لا يعني حربًا ولا مواجهات مسلّحة، بل يعني دفاعًا عن جوهر لبنان وروح الدستور واستمراريّة الطائف.
هناك الكثير يمكن أن يقال ويكتب ويحكى، ولكن يمكن الإكتفاء بهذا القدر، لأنّ نسب البعض “تدحرج” الحريري الى أفعال الآخرين مجرّد “معادلة طفولية”. الحريري لم يسقط بسبب مستشاريه. هو أرادهم من هذه الطينة. الحريري لم يخسر ثروته بسبب السارقين. هو لم يتحرّك ضدهم عندما كان يطلع على تقارير بشأنهم. الحريري لم يخسر علاقاته بدول مهمة بسبب “الواشين” بل بسبب عدم مراعاة المعادلات الداخلية والإقليمية القائمة. الحريري لم يفقد مكانته بسبب “قلّة الوفاء له” بل بسبب إهماله هو لمشاعر هؤلاء بإهمالهم وسوء سلوك “البطانة” تجاههم.
نحن على ثقة بأنّ هذه الإفتتاحيّة لن يكون لها الأثر المرجو، لأنّ هذا الزمن لا مكان فيه إلّا للمروّجين ونحن، مهما كانت عاطفتنا، لن ننضم إلى هؤلاء!