"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

ندى حطيط/ عن باريس وباريس الأخرى: قصّة مدينتين

الرصد
الخميس، 6 يوليو 2023

لا يملك المرء وهو يتابع أخبار الانتفاضة الفرنسيّة الأحدث على نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي من أن يتذكّر «قصّة مدينتين»، الرّواية ذائعة الصيت، للكاتب الإنكليزي الشهير تشارلز ديكنز، والتي تدور أحداثها في أجواء الثورة الفرنسيّة بين باريس ولندن، ويقارن في خلفيتها بين روحيّة المدينتين: تلك العاصمة الجامحة الثائرة على البرّ الأوروبيّ ونقيضتها المحافظة الوادعة المفعمة بالحب على الطرف الجنوبي للجزيرة عبر القنال الإنكليزيّ.

على أن الحدث الثوريّ في فرنسا هذه المرّة لم يحتج إلى عاصمة دولة مجاورة كي تكتمل قصّة المدينتين، إذ أن الشروخ بين المقيمين في باريس – وما ينطبق عليها ينطبق تقريباً على كل مدينة فرنسيّة كبرى – كانت كافية وظاهرة وبارزة لتكون هي بنفسها المدينتين في أجواء الشغب الثوري. فهناك باريس 1 أو باريس الناس «اللي فوق»: المباني الرسميّة المهيبة، والمعالم السياحيّة، وشارع الشانزليزيه، والشوارع الاستعراضية الشعاعيّة من مركز المدينة والأسواق الفارهة وأحياء الطبقة المخمليّة التي يغلب عليها مزاج البرجوازيات الليبرالي، مع شيء من الأرستقراطية المحافظة، وسكانها في غالبيتهم من الفرنسيين ذوي البشرة البيضاء والأجانب والملونين الأثرياء، إضافة إلى آلاف السياح الذين تأتي بهم الطائرات من شرق الكوكب وغربه والجنوب، مقابل باريس 2 أو باريس الناس «اللي تحت»: تلك الضواحي التي تكاد تكون أقرب إلى مدن صفيح مكتظة، نمت في ظل إهمال حكوميّ حول مشاريع إسكان حضري من مرحلة الحداثة، والتي تجمع إلى سوء تخطيطها ضعف بنيتها التحتيّة، وازدحام شوارعها، بينما يتجمع فيها خليط عرقي من العرب – لا سيما من شمال افريقيا – والأفارقة السود، الذين يربط بينهم الفقر والشعور بالعزلة والاستهداف من الدّولة الفرنسيّة.

إن الذي بين الحكومة وباريس 1 وباريس 2 لمختلف جداً

لا يمكن بالطبع فصل الوضع الحالي لحالة الفصام الشيزوفروني، التي أصابت باريس – و فرنسا على عمومها – عن التاريخ الاستعماري للجمهوريّة الفرنسيّة، التي خلقت، بحكم الصراع العسكري والتفاعل الحضاري والاقتصادي بين المستعمِر والمستعمَر تداخلاً فرض انتقال فئات من شعوب المستعمرات إلى البر الفرنجة في أوروبا: بعضهم جاء ليقاتل دفاعاً عن فرنسا، آخرون خدموها ضد بلادهم وانحازوا إلى أسيادهم بعد انتهاء الاستعمار الرسميّ، فيما وجد آخرون في فرنسا فضاء يمكنهم فيه تحصيل تعليم بلغة صارت بشكل أو آخر لغتهم، أو تحسين ظروفهم الاقتصادية الفرديّة والعائلية بعد أن سرق الفرنسيون ثروات بلادهم وتركوها خراباً تتنازعه الغربان، أو حتى بلاداً أكثر تحضراً مادية وليبرالية لعيش بعض أثرياء البلاد المستعمَرة. على أن كل هؤلاء تقريباً وبغض النّظر عن أصولهم أو أسباب هجرتهم انتهوا جميعاً على صعيد واحد، نقيض للفرنسي الأبيض، المواطن الأصلي، صاحب الأرض واللغة والفضاء، والسّلطة وقيم الجمهوريّة، وعلمها.

إهمال تعتّق حتى صار سمّاً

ما بدأ كفصل عنصري ثقافي موروث من أيّام التجربة الاستعماريّة، تحوّل تدريجياً إلى فصل مكاني وعرقيّ لسكان أحياء باريس العريقة وضواحيها البائسة، وتكرّس عبر نصف فرن في أداء الحكومات الفرنسية المتتابعة بين قوسي يمين الوسط ويسار الوسط كنوع من الإهمال الذي تراكم مع مرور السنوات والتضخّم السكاني وتراجع مستوى المعيشة واتساع فجوة الأجور بين الطبقات الثرية والمتعلمة وتلك الأفقر والأقل حظاً، كما التحاق أعداد كبيرة سنوياً بهم من المهاجرين الشرعيين واللا شرعيين الآتين من افريقيا والشرق الأوسط عبر القوارب ومشياً على الأقدام أو تهريباً من الدول المجاورة، بحثاً عن الأمان وفرصة العيش الأفضل، وخاصة من دول شاركت فرنسا الرسمية المعاصرة في تقويض أنظمتها واقتصاداتها ونهب مواردها. وهكذا أصبحت باريس الأخرى تشبه أيّ مدينة في العالم الثالث إلا باريس الكلاسيكية.

في سنوات النموّ الاقتصادي والبحبوحة كان يمكن ترك الأمور لحالها مع حد أدنى من مستوى العيش المقبول حتى للفرنسيين من أصول مهاجرة، لكن الأزمات المتدفقة وسعّت الفجوة الاقتصاديّة بين سكان المدينتين على نحوٍ تقمص أبعاداً أخرى، فأصبحت الضواحي مرتعاً للمافيات والعصابات المحليّة، وانتشرت فيها تأثراً بالشرق الأوسط الأفكار الدينية بتنويعاتها المتطرفة لتنفجر الأمور ذات أكتوبر / تشرين أوّل 2005 على شكل موجة من العنف والتخريب والشغب بعد مقتل شابين من سكان الضواحي، إثر مطاردة الشرطة الفرنسية لهما، في ما اعتقد أنه كان بدوافع عنصرية، واحتاجت وقتها حكومة الرئيس الراحل جاك شيراك ثلاثة أسابيع كاملة كي تنجح في وقف الانتفاضة، التي وصفها البعض بأنها بروفة حرب أهليّة. شيراك الحكيم أدرك وقتها خطورة هذا الفصام الثقافي – الاجتماعي – الاقتصاديّ، وقرر أنّه قد حان لفرنسا مراجعة نفسها، ووقف سم التمييز العنصري، الذي استشرى في عروقها.

لكن شيراك رحل، ونسي السياسيون سريعاً درس 2005، بل وبنى البعض في اليمين الفرنسي صعوده السياسي من وراء رش الملح على جروح الانقسام بين الفرنسيين. وهكذا، كان لا بدّ لمن لم يتعلم من التاريخ بأن يعيشه مرّة أخرى، فكانت طبعة جديدة من انتفاضة المحرومين ذات يونيو / حزيران هذا العام 2023، أي بعد أقل من 18 عاماً من الانتفاضة الأولى.

نائل مرزوق: عامل التوصيل الذي قصم ظهر البعير الفرنسي

دفع مراهق فرنسي من أصل جزائري في السابعة عشرة من عمره حياته ثمناً لانفصام مجتمعي، لم يكن له يد في التسبب به بأي شكل. إذ أن الظروف الاقتصاديّة الضاغطة أجبرته على العمل في الظل كعامل توصيل يقود سيارة مستأجرة دون حيازة رخصة لصغر سنه. وبغض النظر عما حصل يوم الثلاثاء 27 يونيو/حزيران، فإن إيقاف الشرطة له انتهى بإطلاق ضابط المرور النّار على رأسه فأرداه قتيلاً. وقالت الشرطة إن الحادث كان بسبب تعريض مرزوق حياة الشرطيين للخطر عبر تحريكه السيارة للفرار، لكن شريط فيديو صوره أحد المارة وظهر سريعاً على مواقع التواصل الاجتماعي كشف كذب الرواية إذ ظهر ضابط المرور وهو يطلق النار على الشاب من نافذة السيارة بينما هي متوقفة.

على أنّ هذا الحادث المؤسف، ومحاولة الشرطة التعمية عليه، كان كافياً ليكون كما الشرارة، التي أشعلت تراكم الغضب شعب باريس/فرنسا الأخرى أو كالقشة التي قصمت ظهر البعير الفرنسي ذي السنامين.

انتفاضة أقصر لكن فرنسا أكثر انقساماً

تطورت أدوات الشرطة الفرنسيّة خلال عقدين منذ انتفاضة 2005، فتحسنت نوعية تسليحها بشكل نوعيّ: درونات، وشبكات كاميرا مراقبة، ورصد إلكتروني، وأسلحة أكثر فعالية لمقاومة الشغب، وميزانيات كريمة من الدّولة الفرنسيّة، وفوق ذلك تعمّقت بين منتسبي الشرطة التوجهات اليمينية على خلفية صعود اليمين على امتداد الساحة الأوروبيّة. ولذلك نجحت شرطة ماكرون هذه المرّة في إيقاف الانتفاضة الجديدة في سبعة أيّام فقط. لكن، وكما يعرف الرئيس الفرنسي وغيره من حكماء فرنسا فإن إيقاف أعمال العنف، التي روعت مشاهدها المصورة على شاشات تلفزيون العالم شيء، واستئصال أسبابها العميقة شيء آخر تماماً. ففرنسا ظهرت – بفضل الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، التي لم تتوفر لجيل 2005 – أمام الجميع أكثر انفصاماً وأشد انقساماً من أي وقت مضى، وتأكد للمرة الثانية خلال عقدين أن مطلق العنف لن يمكن سكان المدينتين من العيش بأمان لوقت طويل.

فلا مفر لهذه الـ»فرنسا» من تدارك نفسها بجسر الهّوة الثقافية – الاجتماعيّة – الاقتصاديّة بين طرفي النهر المعكّر، وبغير ذلك ستشتري وقتاً ضائعاً، بانتظار انتفاضات أخرى، جديدة، قد تكون إحداها فاتحة حرب أهليّة مكتملة الأركان.

القدس العربي

المقال السابق
اتهمها زوجها بالتقاعس تجاه بيتها.. فتوقفت عن التنظيف وصوّرت النتائج

الرصد

مقالات ذات صلة

"المرأة الغامضة" وراء الشركة المرخصة لأجهزة "البيجر" المتفجرة

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية