في أعقاب الهجوم الذي شنه مقاتلو حركة حماس على عدد من التجمعات السكانية والقواعد العسكرية والمدن الإسرائيلية في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترددت كلمة “كيبوتس” في نشرات الأخبار للإشارة إلى نوع من التجمعات السكانية التي اجتاحها مقاتلو حماس مثل كفر عزة وحوليت وبئيري.
فما هي الكيبوتسات وما الدور الذي لعبته في تأسيس دولة إسرائيل؟
شهدت فلسطين منذ القرن التاسع عشر عدداً من موجات الهجرة اليهودية المحدودة لكنها تسارعت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع تأسيس الحركة الصهيونية التي كان محور نشاطها إقامة دولة لليهود في فلسطين.
قبل عام 1880 كان هناك 25 ألف يهودي يعيشون في فلسطين منذ أجيال عديدة.
وبين عامي 1882 و1903 شهدت فلسطين أول موجة من الهجرات اليهودية وبلغ مجموع اليهود الذين وصلوا إلى فلسطين ما بين 20 إلى 30 ألف يهودي من روسيا القيصرية بسبب أعمال العنف والاعتداءات التي تعرضوا لها هناك.
أما الموجة الثانية من الهجرات فكانت ما بين عامي 1904 و1914 وبلغ مجموعها ما بين 35 إلى 40 ألف يهودي روسي، أغلبهم أصحاب توجهات اشتراكية وخلال هذه الفترة ظهرت أولى التجمعات الزراعية التعاونية اليهودية التي تعرف باسم الكيبوتسات.
الأسس التي أقيمت عليها الكيبوتسات جوهرها بناء مجتمعات زراعية ذاتية الإدارة تعتمد على الملكية الجماعية لأدوات الإنتاج وتنعدم فيها جميع أشكال الملكية الفردية ويجري فيها تقاسم عائدات الإنتاج بالتساوي بين أفراد المجتمع الزراعي الصغير.
كانت هذه التجمعات اليهودية عبارة عن قرى معزولة تعمل في مجال الإنتاج الزراعي وتربية الحيوانات، وكانت الحياة فيها أقرب الى العيش في معسكرات، حيث كان الأطفال يعيشون في أماكن خاصة بهم والكبار منهمكون في مختلف المهام والأعمال اليومية، وكانت وجبات الطعام مشتركة إذ كان يتم إعدادها لكل أفراد الكيبوتس ويتم تناولها في صالات خاصة بذلك.
لعبت الكيبوتسات دوراً كبيراً في المشروع الصهيوني لإقامة دولة لليهود في فلسطين، حيث قامت بتنظيم المهاجرين اليهود الجدد في تجمعات زراعية، وتدريبهم على العمل في الحقول، والمزارع التابعة لها، وتوفير المأوى والطعام وتهيئتهم للاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
وفي مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان المتطوعون اليهود من مختلف أرجاء العالم يتقاطرون على هذه الكيبوتسات للعمل فيها دون مقابل بغرض معايشة تجربة العمل التعاوني والتمتع بالمزايا التي توفرها الكيبوتسات. من أبرز من خاضوا هذه التجرية مرشح الرئاسة الأمريكي السابق اليساري وعضو الكونغرس حالياً بيرني ساندرز حيث أمضى عدة أشهر من عام 1963 في كيبوتس شار ها أماكيم شمالي حيفا.
وتقول المكتبة الافتراضية اليهودية: “الكيبوتس ليس مجرد شكل من أشكال الاستيطان ونمط حياة، بل هو أيضاً جزء لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي. قبل قيام دولة إسرائيل وفي السنوات الأولى لقيام الدولة، تولى الكيبوتس وظائف مركزية في مجالات الاستيطان والهجرة والدفاع والتنمية الزراعية”.
تم تأسيس الصندوق القومي اليهودي عام 1901 في سويسرا، بهدف مساعدة اليهود على الاستيطان في فلسطين خلال المرحلة العثمانية وتمكن الصندوق من شراء بعض الأراضي من الإقطاعيين حول بحيرة طبريا والرملة واللد عام 1905. وبلغ مجموع مساحة الأراضي التي اشتراها الصندوق عند قيام دولة إسرائيل عام 1948 نحو 936 ألف دونم ( الدونم يعادل ألف متر مربع).
ظهرت فكرة إقامة التعاونيات الزراعية في الأوساط الصهيونية في أواخر القرن التاسع وقد تجسدت أول تجربة عملية لهذه الفكرة عبر إقامة كيبوتس “دغانيا” على ضفاف بحيرة طبريا عام 1910.
حصلت مجموعة من المستوطنين اليهود بقيادة اليهودية الروسية مانيا شوشات في عام 1907على قطعة أرض في قرية الشجرة قرب بحيرة طبريا وأقاموا عليها جمعية تعاونية زراعية. وفي عام 1909 أسس رئيس مكتب المنظمة الصهيونية في فلسطين، أرثر روبين، تعاونية زراعية على ضفاف بحيرة طبريا بعد أن اشترى قطعة الأرض التي أقيمت عليها التعاونية.
رغم أن تعاوينة مانيا شوشات حققت بعض النجاح لكن أعضاءها تفرقوا وتم حلها بعد عام.
في أواخر عام 1910 وصلت مجموعة جديدة من المستوطنين حملت اسم “كومونة الخضيرة” إلى موقع خربة “أم جوني” بالقرب من قرية سمخ بجوار بحيرة طبريا واستأجرت المجموعة قطعة أرض مساحتها ثلاثة آلاف دونم من روبين والصندوق القومي اليهودي ليقيموا عليها كيبوتساً.
كان عدد أفراد المجموعة 12 شخصاً، أغلبهم في العشرينيات من العمر وضمت 10 رجال وامرأتين. وغيرت المجموعة اسم التعاونية من كيبوتس أم جوني إلى الاسم العبري “دغانيا” لاحقاً.
وكان أول مولود أبصر النور في هذا الكيبوتس هو موشيه ديان الذي قاد الجيش الإسرائيلي خلال حرب يونيو/حزيران 1967، وقيادة القوات الإسرائيلية خلال العدوان الثلاثي على مصر.
نجحت تجربة كيبوتس دغانيا وأثمرت جهود القائمين عليه بعد استصلاح الأراضي الخصبة لكن غير المستثمرة التي أقيم عليها. وبعد ثلاثة عقود من الزمن كان الكيبوتس يضم 60 منزلاً حديثاً، وعدداً من المرافق العامة بدلاً من الأكواخ التي كان يعيش فيها مؤسسوه في بداية الأمر.
بعد إقامة دولة إسرائيل ا نتشرت الكيبوتسات في مختلف أنحاء إسرائيل ووصل عددها في عام 1950 إلى 214 كيبوتسا وكان يعيش فيها 67 ألفا و550 إسرائيلياً. يبلغ عدد الكيبوتسات حالياً 270 كيبوتساً، ويتراوح عدد سكان الكيبوتس الواحد ما بين 40 إلى ألف شخص، لكن متوسط عدد أفرادها هو ما بين 300 إلى 400 شخص، وإجمالي عدد سكانها 130 ألف نسمة، أي حوالي 2 ونصف في المئة من سكان إسرائيل.
و تبلغ مساهمة الكيبوتسات حوالي 40 في المئة من الإنتاج الزراعي في إسرائيل و11 في المئة من الإنتاج الصناعي، وتنوعت القطاعات التي تعمل بها حالياً لتشمل العقارات والخدمات والتقنيات الحديثة.
و للكيبوتسات هيكل إداري ومخطط بناء موحد تقريباً، حيث تنتشر في مراكزها مساكن الأعضاء مع حدائق وملاعب أطفال ورياض أطفال، إلى جانب المرافق العامة، مثل صالة الطعام والمطبخ والمسرح والمكتبة والمسبح والمستوصف وغيرها.
وبالقرب من المساكن هناك حظائر لتربية المواشي والطيور والمصانع الخاصة بالمنتجات الزراعية. وتحيط بالكيبوتس من الخارج الحقول والبساتين وأحواض تربية الأسماك. ويتنقل الأفراد سيراً على الأقدام في أرجاء الكيبوتس أو بواسطة الدراجات الهوائية.
ويدار الكيبوتس بشكل جماعي حيث يقوم الأعضاء بانتخاب لجان خاصة بكل من السكن والمالية والتخطيط للإنتاج والصحة والثقافة. وتتكون اللجنة التنفيذية في الكيبوتس من سكرتير ورؤساء اللجان.
رغم أن الإنتاج الزراعي لا يزال يمثل أحد قطاعات الإنتاج الرئيسية في الكيبوتسات، لكن الغالبية العظمى منها باتت تعمل وفق مبادئ اقتصاد السوق بعد خصخصتها، مثل “أبو الكيبوتسات” دغانيا الذي جرت خصخصته عام 2007 وتوقف أسلوب العمل التعاوني فيه، ويضم حاليا متحفاً عن تاريخ الكيبوتس وبات مقصدً للسواح.
وتعمل الكيبوتسات حالياً في مجالات السياحة والصناعة والخدمات المالية والنقل والبناء، والعديد منها يضم معامل المنتجات الغذائية والأدوات الزراعية وتقنيات الري الحديثة التي تصدر للعديد من دول العالم.
وجدير بالذكر أن مؤسس دولة إسرائيل ديفيد بن غوريون الذي مات عام 1973 مدفون في كيبوتس “سديه بوكير” في صحراء النقب، حيث كان يملك منزلا فيه منذ عام 1952 واستقبل فيه كبار القادة والزعماء الذين زاروا إسرائيل، وأمضى بقية عمره فيه في أعقاب اعتزاله العمل السياسي في عام 1970. وتم تحويل المنزل إلى متحف لاحقاً.