"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

متلازمة سيرانو.. الفتى الذي يكره أنفه!

كريستين نمر
الجمعة، 5 مايو 2023

جلس أنطوان في غرفة الانتظار في عيادة الطبيب النفسي، بسترته السوداء وبنطلونه الرياضي الأزرق وحذائه الرمادي، يتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي على هاتفه، كما والده، بينما والدته التي بدت أكثر جديّة بهندام كلاسيكي، جلست تردّ على رسائل مهنيّة عبر هاتفها الذكي.

بنظرة قلقة استدار الفتى الباغ من العمر ١٣ عامًا نحو الطبيب بعدما نادى عليهم. والده وقف على الفور، متوترًا لكن مبتسمًا. سألت الوالدة الطبيب، وهي محرجة، عمّا إذا كان بإمكانها مرافقة ابنها خلال المعاينة، فأبلغها: “في الجلسة الأولى من الضروري أن استقبل الجميع”.

كان أنطوان صامتًا، مرتعشًا ومتوترًا. على الرغم من أن شعره يخفي وجهه، إلا أن الطبيب لاحظ ما يسمّى في المصطلحات الخاصة بعلم النفس: “التباعد الصارخ “.

تكلّم الوالد، فيما واظبت الوالدة على تأكيد كل نقطة كان يرويها عن ابنهما: “نحن لا نفهم ماذا يحدث، خلال الأسابيع القليلة الماضية، كان يعاني من آلام في المعدة ورفض الذهاب إلى المدرسة، والمشاركة في صف السّباحة المفضل لديه. نحن نخشى أن يكون مصابًا بما يسمى رهاب المدرسة”.

“أنا لا أخاف من المدرسة”

بينما واصل أنطوان صمته أخذت والدته الكلام: “ما يثير قلقنا هو هذا السكوت المستجد الذي بات يلازمه دائمًا… اعتقدنا بأن سببه مشاكل مدرسية، ولكن بعد مقابلة أساتذته تبيّن أن كل شيء على ما يرام”.

بدا الوالدان كأنهما يركّزان على المدرسة، وعندما سأل الطبيب الفتى عن رأيه، استغرق وقتًا طويلاً قبل أن يجيب:

-“المدرسة لا تخيفني …”

-“إذن ما الذي يخيفك؟ أخبرنا… نحن هنا من أجل ذلك”، يرد والده بنبرة قلقة. “تبدو منذ فترة وكأنك تعاني من شيء ما، تعيش بعزلة تامة، حتى إنّك تخليت عن هواياتك المفضلة، هذا عدا تعلّقك المرضي بهاتفك”…

“يبدأ أنطوان باللهاث”. يشرح الطبيب الظاهرة للوالدين:” صعوبة التنفّس هي لتجنّب البكاء” قبل أن يبلغهما: “حان الوقت بالنسبة لي للتحدث معه على حدة”

بدا الفتى متجمّدًا وكأن أصابه مسّ، مع بعض الانقباضات في زاويتي الشفتين. كان صوته منخفضًا، رتيبًا، مع صبغة اكتئابية، نظراته غائبة، عابرة، تعطي انطباعًا بالثبات السلبي، علامات القلق الاجتماعي واضحة عليه، بحيث لا يمكن تفسيرها بالخجل وحده الذي وصفه والداه. القلق موجود في كل تعبير من تعابير جسده.

بعد لحظات من الصمت، وبنبرة دفاعية معارضة، قال للطبيب من دون النظر في عينيّه وكأنه يخاف من أن يكتشف سرّا مخزيًا: “لا أريد أن أتحدث عن نفسي، ليس لديّ ما أقوله!“.

خلال لقائه الثاني، بعد ثلاثة أيام، قال أنطوان لطبيبه “لم يفهم والداي شيئًا، ولا يعرفان شيئًا … ليست المدرسة التي تخيفني، إنه جسدي”.

هل يمكن أن يكون جسده سبب انسحابه الاجتماعي؟

لمعرفة الجواب، دعنا نتعرف على أنطوان البالغ من العمر ١٣ عامًا، في الصف الثالث متوسط، هو الولد الثاني في أسرة مترابطة جدًا ومكوّنة من أخ أكبر منه، (١٧ عامًا) يدعى بول، في سنته المدرسية الأخيرة، والده مدرّس ثانوي لمادتيّ التاريخ والجغرافيا أما والدته المنخرطة جدًا في نشاطها المهني فتعمل مديرة موارد بشرية في شركة كبيرة غالبًا ما تعود إلى المنزل متأخرة، مما يمنح الأب دفّة الاهتمام بولديهما.

طفولته

تروي والدته بأنه كان طفلًا منفتحًا ومحبوبًا، عاش سنته الأولى قبل أن يدخل الحضانة، في كنف جدّيه لأبيه، كانا ولا يزالان يحبانه كثيرًا، فقد كان مجتهدًا والأول على صفه، وتضيف: “على الرغم من أنه كان خجولًا وانطوائيًا بعض الشيء إلا أنّ ذلك لم يؤثّر على علاقاته الاجتماعية. إنه طفل حسّاس وعاطفي للغاية، ولأنه كذلك كان لديه صديق مقرّب بشكل خاص، من عمر الست السنوات وهما معًا”.

إذن، فرضية القلق والأداء الاجتماعي غير موجودة وكذلك رهاب المدرسة خصوصًا في ما يتعلّق بالامتحانات والواجبات المدرسية والنشاطات غير المدرسية…

أنف جدته

ولكن من أين تأتي مخاوفه؟ وما سبب هذه العزلة الاجتماعية التي طرأت عليه فجـأة مع بداية العام الدراسي في أيلول الماضي.

حاول المراهق التهرّب من الردّ على السؤال، ثم بدأ في التقليل من أهمية ملاحظات والديه: “هذا صحيح، منذ بعض الوقت، كنت أفضل أن أكون وحدي … قرأت الروايات التاريخية وهذا يناسبني جدًا. لا يزال لديّ أصدقاء، فقط، ابتعدت عنهم جسديًا، بينما لا أزال على اتصال بهم على شبكات التواصل الاجتماعي”.

سبب التباعد

لقد اتضح أنه أثناء مشادة “مع أصدقائه” حول فتاة كان معجبًا بها في صفه، قبل أكثر من عام، قال له صديقه المفضّل ماتيو: “أنت قبيح بأنفك الضخم الذي يشبه حبة البطاطس ولا أظن أنها من الممكن أن تُغرم بك”.

هذا الحادث البسيط ترك أثره، خاصة وأن شقيقه كان قد قال له ذات مرة، إنّ أنفه الكبير يشبه أنف جدته لأمه”.

ويتذكّر أنطوان أنه عندما كان صغيرًا، كثيرًا ما سمع والديه يسخران من جدته بسبب أنفها الكبير، حتى إنّ شقيقه كان يميل إلى الإفراط في مقارنة أنفها بشخصيات أفلام الكرتون.

مع بلوغه سنّ المراهقة بدأ اهتمامه أكثر وأكثر بأنفه، خاصة مع ظهور بعض البثور عليه، فتضاعف تركيزه عليه، ليصبح تدريجيًا مهووسًا به، فبات يقضي الساعات في تفحّصه والنظر في المرآة، يلتقط صورًا لنفسه، ثم يحاول تنقيحها باستخدام الفيلتر الموجود على Snapchat وTikTok، لتتوالى بعدها أبحاثه حول أمراض الأنف، فاكتشف أن هناك مرضًا اسمه “تضخّم الأنف” وهو من الأمراض النادرة وتصيب بنسبة أكبر كبار السنّ بحيث تجعل أنوفهم عريضة ومنتفخة.

وبدأت عزلة أنطوان… بات يعتقد أن أصدقاءه وخاصة البنات لا يحبونه بسبب شكله، وأنه “من غير الممكن أن تقبل به أي فتاة أو تحبّه”، كما يقول. فأثّر هوسه بأنفه على تقديره لذاته لدرجة أنه بات أكثر عزلة وحزنًا وتشاؤمًا، ويضيف: ” إنني لا أرى حلًا لمشكلتي فأفكاري باتت مظلمة “.

الثديان المتناميان …

لكن هذا ليس كل شيء، خلال لقائه الرابع، أسّر المريض الصغير لطبيبه عن خوف رهيب يحمله في داخله، يخفيه عن الجميع حتى عن أهله، فأخبره أنه خائف “لأن ثدييّ يكبران، لديّ حلمات كبيرة، أكبر من تلك الخاصة بأصدقائي، إنهما يثيران اشمئزازي، لهذا السبب لا أريد الذهاب لممارسة السباحة، وهذا هو السبب أيضًا في أنني توقفت عن ممارسة كل الرياضات التي كنت أمارسها سابقًا، لا يمكنني تحمّل نظرات زملائي في غرفة تغيير الملابس “.

طبيًّا حالة أنطوان هذه تعرف ب “التثدي”، وهو تطور شائع جدًا في سن البلوغ للغدد الثدييّة، ويرتبط بالإفراز المبكر للإستروجين مقارنة بمستوى التستوستيرون الذي لا يزال منخفضًا. عادة ما تستمر بضعة أشهر، حتى بضع سنوات، قبل أن تختفي تلقائيًا.

إذن بعد الأنف، ها هو الصدر … هذا كثير بالنسبة إلى مراهق بسنّه، خصوصًا وأنه كتم مخاوفه ولم يفصح عنها أو يتشارك بها مع أحد، إنما قرر اللجوء إلى شبكات التواصل الاجتماعي ومقارنة نفسه بالمراهقين الآخرين الذين ينشرون صور أجسادهم وعضلاتهم من دون الانتباه إلى أن هذه الصور يتمّ تنقيحها وأنّ الفلاتر التي يستخدمها هو لتحسين أنفه، يطبقونها هم ليظهروا أجسادهم بأبهى حللها.

اصوات تتحدث اليه عن انفه؟

يقول أنطوان: “أعتقد طوال الوقت أن الناس ينظرون إلى أنفي … سواء كانوا أصدقائي، أو أشخاص لا أعرفهم، في الشارع، في الباص، وفي كل مكان… أراهم يتحدثون عني وينظرون إليّ وكأنهم يقولون في ما بينهم انظروا إلى أنفه كم هو كبير وقبيح وبشع…”

فهل من الممكن أن يكون أنطوان بتهيؤاته هذه، يعاني من “هوس الأداء الوهمي”؟ أي من هلوسات سمعية لمحادثات، أو أفكار من وحي خياله، أو هل هو مصاب بحالة انفصام في الشخصية أو ما يعرف بالشيزوفرينيا؟

إنه يفكر في إجراء جراحة تجميلية

بعض الفحص السريري الذي خضع له، تبيّن أنّ أنطوان لا يعاني من أي ظواهر هلوسة بصريّة أو شميّة أو جسديّة أخرى، ولا بما يسمّى بهذيان الاضطهاد أو الذنب، ولا باضطراب الفكر الرسمي ولا حتى بحالة انفصام في الشخصيّة، كل ما في الأمر أن مخاوف متعلّقة بأنفه وجسده وثدييّه تنتابه، وأن هوسه بأنفه كان موجودًا منذ فترة طويلة، إذ قرر منذ أن كان في التاسعة من عمره إجراء جراحة تجميلية، وبدأ منذ ذلك الحين بادخار الأموال التي كان يتلقاها كهدايا في المناسبات ويقول: “رأيت أنه بإمكاني القيام بذلك ، وأعرف أنها عملية مكلفة لهذا السبب بدأت بادخار الأموال في صندوق صغير لأن هذا هو الحلّ الوحيد بالنسبة إليّ.

Gregory-Michel غريغوري ميشال

رأي الطب النفسي

يقول الدكتور غريغوري ميشال، أستاذ علم النفس السريري والمرضي بجامعة بوردو: ” يعاني أنطوان على ما يبدو من خلل في الشكل مع قلق اجتماعي، بمعنى آخر هو يعاني من اضطراب خطير في صورته الذاتية سببت له معاناة نفسية واجتماعية كبيرة، فرؤيته المشوّهة لأنفه، التي تغذيها البيئة الأسريّة، هي التي تسببت في هذا الخلل”.

ويرى أنّ علاج مثل هذا النوع من الاضطرابات يقوم على التربية النفسية وعلى تقديم عناصر تعليمية وتربوية حتى يتمكّن المريض من فهم ما يحدث له، من تحوّلات جسدية ومعرفية طبيعية في جسده وعواطفه وأفكاره تطرأ فجأة مع سنّ البلوغ.

ولا يعارض الدكتور غريغوري ميشال إلى اللجوء إلى تناول مزيلات القلق كونها تساعد على تقليل المخاوف إلى حد كبير.

ويرى أنّ هذه الاستراتيجية العلاجية التربوية قد تساعد على التعديل في أفكاره ومواقفه وسلوكياته والعمل معه لإعادة الهيكلة المعرفية المتعلّقة بمعتقدات المريض ومظهره الجسدي الذي فقد احترامه له.

أما في المرحلة الثانية فيقول ميشال بأنه يتوجّب تحضير المريض تدريجياً لرؤية أصدقائه مرة أخرى، والتأكد من تقبّلهم له، إذ يرى أنّ هذه البيانات الملموسة ستسمح له بالتأكد أن ما يتراءى له لا يتماشى مع الواقع، إنما هو من وحي خياله مما سيساعد في تراجع قلقه الاجتماعي.

وماذا عن الأهل في كل هذا؟

يرى الدكتور غريغوري ميشال أنه من الضروري أن تستند رحلة علاج أنطوان والأشخاص الذين يعانون من حالات مشابهة لحالته، إلى لقاءات مع الأهل، لاطلاعهم على مخاطر اضطراب تشوُّه ولدهم، وللإضاءة على العناصر العائلية المثيرة للقلق - على سبيل المثال، حقيقة السخرية من أنف الجدة في المنزل- وأن تكون له أوقات محدّدة يمكنه فيها تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي، هذا بحال لم يرغب بإلغاء حساباته، وهنا قد ينتهي به الأمر بقبول وجهه من خلال اعتبار أنفه كعضو ملحق طبيعي.

المقال السابق
العودة "السهلة" للنظام السوري لن تمحو فظائعه "بسهولة"!
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

باسم يوسف يطلق أغنية لمحاكمة "النتن" نتنياهو

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية