تعاني إسرائيل من مأزق لبنان. لا هي قادرة على تجاوز فكرة وجوب شن حرب واسعة عليه، من شأنها أن تسم ح لها باستعادة قوة الردع التي خسرتها، حتى قبل الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ولا هي قادرة على تجسيد طموحها الحربي هذا، من دون الحصول على ضوء أخضر أميركي واضح، نظراً للتداعيات الخطِرة لهذه الحرب.
و”حزب الله” الذي أثبت قدرته على تحمّل الخسائر البشرية في صفوفه، بعدما احتوى المعارضتين السياسية والشعبية له، بالترغيب والترهيب، يستطيع، والحالة هذه، مواصلة اللعب على حافة الهاوية، “حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً”!
إذاً، مستقبل الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية بات مرتبطاً حصراً بقرار الولايات المتحدة الأميركية، فهي، إن ثابرت على حجب الضوء الأخضر، ستواصل إسرائيل العمل دون “عتبة الحرب الشاملة”، مكتفية بمحاولة تحويل “حرب الاستنزاف” لمصلحتها.
ولكن إلى متى سيبقى هذا الفيتو الأميركي مرفوعاً؟
“إلى أبد الآبدين”، كما يقول مصدر دبلوماسي أوروبي اطلع على حيثيات الأعمال التحضيرية للبيان الرباعي الذي صدر، على هامش احتفالات الإنزال الذي كان قد نفذه الحلفاء في الحرب العالمية الثانية على شواطئ النورماندي الفرنسية، في السادس من حزيران (يونيو) الجاري.
في هذا البيان اتفقت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا على توحيد الجهود من أجل خفض التوتر على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية وتجنب تصعيد إقليمي آخر.
وتخشى الخلاصات التي تقاطعت عليها مخابرات الدول الأربع من أن يؤدي توسيع الحرب على لبنان الى فوضى لا يمكن احتواؤها إلا بتكبيد حلفاء إسرائيل كلفة عالية، لأنّ الجمهورية الإسلامية في إيران لن تبقى مكتوفة الأيادي، حيال تعرض أهم “أذرعتها” على الإطلاق للخطر، كما أنّ قوى “جبهة المقاومة” سوف تصعد، بطريقة مختلفة عن تصعيدها “نصرة لغزة”، لأنّ الحدود أمام مقاتليها مفتوحة من قم الإيرانية حتى بوابة فاطمة اللبنانية.
ووفق خلاصات التقارير المخابراتية، فإنّ الحرب الواسعة على لبنان لن توفّر لإسرائيل أهدافها المعلنة، لأنّه، حتى لو نجح الجيش الإسرائيلي، في إقامة منطقة أمنية داخل الجنوب اللبناني، إلّا أنّه سيفشل، من جهة أولى، بالمحافظة عليها، كما سيسقط كل لبنان في قبضة “حزب الله” الذي سيعود الى رفع لواء “المقاومة والتحرير”، من جهة ثانية.
وإغراق لبنان في الفوضى، من شأنه أن يحوّل ملف اللجوء السوري الى قنبلة موقوتة، سواء لإضعاف الداخل اللبناني المناوئ لـ”حزب الله”، أو لإغراق أوروبا بموجة جديدة من اللاجئين الذين سيضافون الى اللبنانيين الهاربين من جحيم الحرب بداية ومن جحيم العيش في بلد مدمّر، لاحقاً.
وقد سبق أن اخت برت إسرائيل هذا النوع من الحلول، منذ العام 1978 ولكنها آلت كلها الى فشل ذريع.
ويبدو أن الحل الأمثل بالنسبة للمجتمع الدولي يكمن في إعادة الإعتبار الى القرار 1701، وعلى إسرائيل أن تضع خطة، طالما الأزمة العسكرية مفتوحة، من شأنها أن تجمّل هذا القرار في عيون بيئة “حزب الله”.
وقد يكون المستوى السياسي في إسرائيل مقتنعاً بهذا التوجه الدولي، ولكنه بات، بالمعطى الاستراتيجي والشعبي، عاجزاً عن اعتماده، ولذلك، هو يفضل الدخول في حرب واسعة، تكون هي التمهيد لتحقيق هذا الهدف “الاحتوائي” الذي ينقل القرار 1701 من النظريات الى التطبيق.
وهنا يكمن الاختلاف بين الإدارة الأميركية، من جهة والحكومة الإسرائيلية، من جهة أخرى.
الخطة التي يعمل عليها الجيش الإسرائيلي، تحاول أن تراعي المخاوف الدولية، بحيث تركز الحرب، بنطاق واسع، على البنية التحتية لـ”حزب الله” في كل لبنان، ولا تشمل، إلّا عند الضرورة القصوى، البنية التحتية للدولة اللبنانية، على أساس أنّ الحزب أقام بنيته الخاصة، حتى قبل أن تنهار الدولة اللبنانية وتتداعى.
الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين اطلع على هذه الخطة، في اجتماعه المطوّل في وزارة الدفاع الإسرائيلية، ولكنه لا يزال مقتنعاً بأنّ هذا سوف يفعّل قوى “جبهة المقاومة”، الأمر الذي يحتاج الى تدخل أميركي أكبر من التدخل المستمر منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، الأمر الذي يرفضه البيت الأبيض.
ولا يبدو لبنان خارج النزاع الحالي بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن.
بالنسبة لنتنياهو تستطيع واشنطن أن تريّح نفسها من أعباء التدخل إن وفرت لإسرائيل “الأدوات”، أي تزويدها بالأسلحة والذخائر الهجومية التي طلبتها.
عمليّاً لا يسعى نتنياهو الى إسقاط الفيتو الأميركي، بل الى عدم الاكتراث به، من خلال توفير العدة الكافية لحرب لا تحتاج الى دعم أميركي ميداني.
وحتى تحقيق واحد من الهدفين، فإن جنوب لبنان كما شمال إسرائيل سيبقيان ينزفان، رجالاً ونزوحاً ودماراً وحرائق وحروباً نفسية!