في العمل السياسي المباشر، لا وجود لكلمة “محتمل”، عند مقاربة الإنجازات التي إمّا تكون أو لا تكون. استعمال كلمة “محتمل” يعني أنّ الفشل يقف، وراء الباب في الوقت نفسه وعلى المسافة نفسها، جنبا الى جنب مع النجاح!
وهذه القاعدة تنطبق على مساعي الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين الأخيرة، فهو زار بيروت وتل أبيب، في محاولة منه لتمرير المقترح الأميركي. عمّ التفاؤل لبنان وإسرائيل، بانتهاء وشيك للحرب.
الوقائع الميدانية بيّنت أنّ التفاؤل الذي تعمد هوكشتاين ولبنان وإسرائيل تعميمه، فيه الكثير من مكوّنات “الخدعة”، فالمفاوضات التي كانت “تحت النار” أصبحت، في مرحلة التفاؤل “مفاوضات بالنار”. أي انتقلت من مرحلة خطرة الى مرحلة أخطر.
منذ بدأ هوكشتاين تحركه الأخير، قصف “حزب الله” تل أبيب وحيفا وأوقع قتيلا في نهاريا، للقول إنّه يملك وسائل ملاحظاته على مقترح وقف الحرب، وعادت إسرائيل، بعد “هدنة”، الى مواصلة تهديم الأبنية في الضاحية الجنوبية لبيروت وصور والبقاع، وضمّت بلدات وقرى جديدة الى قائمة التدمير، بعدما أحرزت تقدمًا بريًّا واضحًا على الخط الحدودي الثاني، وقسّمت الجنوب الى مناطق عسكرية عدة، وقطعت التواصل البيني فيه، وارتفع عدد الضحايا الذين يتساقطون يوميا، وعلت صرخات ممثلي سكان الشريط الحدودي الإسرائيلي، رافضين المقترح الأميركي رابطين الموافقة على عودتهم الى منازلهم بإقامة منطقة عازلة داخل جنوب لبنان، تكون خالية من السكان!
وتزامن هذا السلوك الحربي التصعيدي مع تسريبات منهجية للنقاط التي تؤخر موافقة لبنان وإسرائيل على المقترح الأميركي، بحيث تبيّن أن سبب اندلاع الحرب نفسها موجود في هذه الملاحظات. حزب الله يريد أن يحتفظ بالقدرة على إعادة تأسيس قوته، ليعود الى ما كان عليه، قوة وانتشارًا واستعدادًا، في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فيما إسرائيل ترفض ذلك، حتى على قاعدة الاحتمال، وهي، في هذا المجال لا تثق إلّا بنفسها ولا تطلب وساطة أميركية، بل دعمًا أميركيًا غير مشروط لمؤازرتها، عسكريا ودبلوماسيا، عندما ترى ضرورة ضرب أي هدف مرتبط بحزب الله، من الحدود مع سوريا الى الحدود معها.
من أين ينبع التفاؤل، والحالة هذه؟
هوكشتاين نفسه سعيد، فهو، على الرغم من أنّ الإدارة التي ينتسب إليها، أصبحت في مرحلة “البطة العرجاء” تمّ استدعاؤه مجددًا الى ميدان الدبلوماسية بطلب مشترك من لبنان وإسرائيل، وبدعم من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. السعداء بأنفسهم تغمرهم، عادة مشاعر التفاؤل.
و”حزب الله” بإعطائه رئيس مجلس النواب موافقة كانت محجوبة سابقًا على التفاوض تحت النار، وفي ظل مبدأ الموافقة على فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، سمح للتفاؤل بأن ينتشر. كان هذا التراجع استراتيجيًّا بالنسبة لجميع المعنيين بوضع حد للحرب، إذ إنّ ما أتيح حاليًا كان م ستحيلًا سابقا.
والحكومة الاسرائيلية تركت للتفاؤل أن يدور دورته الكاملة، فهي بذلك وضعت جيشها وشعبها وقواها السياسية والولايات المتحدة الأميركية أمام الحقيقة، فإذا كان جميع هؤلاء يرغبون فعلًا بأن تتوقف حرب “سهام الشمال” فعليهم أن يقبلوا بالشروط التي يضعها “حزب الله”، وهي لا تراعي أبدًا المعايير التي كانوا قد اشترطوها، فحزب الله الذي ضعف كثيرًا يخطط لاستعادة ما فقده من أجل استعادة دوره في الداخل اللبناني والإقليم.
وحققت الحكومة الإسرائيلية مبتغاها، فالجيش والشعب والطبقة السياسية بما فيها تلك المحسوبة على المعارضة، ترفض شروط “حزب الله”، وواشنطن نفسها التي تريد إن يتقزم الدور الإقليمي ل”حزب الله” ويتضاءل دوره في الداخل اللبنانيين، لا يمكن أن تضغط على إسرائيل للذهاب الى تسوية من شأنها إعادة الحرب، في أي وقت لاحق، بما يتناقض وتعهدات دونالد ترامب، في الرسالة التي وقعها ووجها الى الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية. تعهدات قوامها أن يعمل على إنهاء الحرب، مرة واحدة وأخيرة، وعدم السماح بعودتها كل خمس أو عشر سنوات.
المهم أنّ الحكومة الإسرائيلية تمكنت بإبداء الإستعداد لوقف الحرب، بعدما قاربت الإنتهاء من المرحلة البرية الثانية، أن تقيس تأثيرات حربها المتوا صلة ضد “حزب الله”. تبيّن لها أنّ الحزب أصيب بالإنهاك، وبالتالي، فهي إن واصلت الضغط لأسابيع إضافية، فقد تحقق، بالنار، ما تطمح إليه، على اعتبار أنّ ما نالته، حتى تاريخه، على الورق أصبح مكسبًا مضمونًا.
“حزب الله” لم يربط ما وافق على التنازل عنه، بفترة محددة. هو سلّم بنهائيته تاركًا لإسرائيل أن تختار الوقت الأنسب إليها. إسرائيل، عمليًا، تكثف جهودها العسكرية، حتى تحقق بالوقت الذي يناسبها فرض الشروط التي تريحها. شروط تجعلها هي المرجعية الأساسية لمنع “حزب الله” من استعادة قوته، في الجنوب، كقوة هجومية، وعلى امتداد لبنان، كقوة صاروخية، لأنّ هدفها لم يعد- وربما لم يكن يومًا- إعادة السكان الى الشمال بل بتر أقوى أذرع إيران التي دخلت، قبل يومين، في صراع جديد مع المجتمع الدولي، على خلفية ملفها النووي، وهو ملف إن لم تبت به الدبلوماسية فسوف يكون مصيره أن يواجه بالحرب!