"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

مقارنة النفس بالآخرين.. ترياق وسمّ في آن!

كريستين نمر
الجمعة، 19 مايو 2023

بدت مارغو ابنة السبع سنوات متوترة وهي تراقب إخوتها وأبناء وبنات أعمامها المنهمكين بفتح هدايا الميلاد، في صباح ذلك الخامس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول، كما بدا القلق على والديها، فخيبة أمل مارغو هذه ليست بجديدة، لا بل تتكرّر مع صباح كل عيد ميلاد، إذ دائمًا ما تعتقد أنّ ما تحصل عليه أقل بكثير مما كانت تحلم به، وأقل قيمة وجمالًا من أغراض الآخرين.

ليس بعيدًا عنها، جلس ابن عمها بول، (١٥ عامًا)، يراقب بعصبية الصور “الجميلة”، التي يتسابق رفاقه على نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، والنشاطات التي يقومون بها، والأماكن التي يزورونها، فبدت إجازته التي يقضيها مع عائلته الصغيرة والكبيرة في بيت جدّه في القرية بالمقارنة مع إجازاتهم، مملّة وحزينة …

هذا وكانت العمّة، التي تتمتّع بجميع مقوّمات العيش، تناقش بصوت منخفض، مع زوجها في غرفة النوم، حياة والديّ مارغو، فعلى الرغم من حبهما لهما، إلا أن وجودهما يزعجهما، فطريقة عيشهما الرغيد، وسياراتهما الفاخرة وهداياهما الثمينة، وثيابهما الأنيقة ونجاحهما المهني والاجتماعي يجعلهما يشعرون بشيء من الدونيّة تجاههما…

للأسف، يبدو أنّ ليلة عيد الميلاد الذي أمضوها في منزل العائلة الكبير، قد دمّرها سمّ المقارنات!

طبعًا المقارنة والمراقبة ليستا خطأين، خصوصًا إذا كانت “مصدر إلهام للشخص المراقِب وفرصة لتعديل سلوكياته، فالتعلّم عن طريق التقليد أمر أساسي للجنس البشري”، على حدّ قول عالم النفس الكندي والأستاذ في جامعة ستانفورد ألبرت باندورا في ستينيات القرن الماضي.

لكن، وهنا المشكلة، غالبًا ما تكون المقارنات تنافسية فتسبّب بإرهاق المرء مسبقًا، أي حتّى قبل إقدامه على القيام بالعمل المطلوب، فنتائج مثل هذا النوع من المقارنات كثيرًا ما تكون غير ملائمة منهجيًا، وهذا ما يحصل بالتحديد مع الأشخاص الذين يعانون من القلق والاكتئاب إذ غالبًا ما يقومون بمقارنات مع أشخاص أفضل منهم، فتفقدهم لذّة الشيء الذي يملكه فينقلب عليهم وبالًا، وهذا ما حذّر منه ديكارت حين قال: “ليس من رزيلة أكثر ضررًا بسعادة المرء من المقارنة، فهي تؤثر على ركيزتين في حياته، النعيم واحترام الذات”.

في علم النفس الإيجابي، ثمّة نموذج واضح لتخطّي الصعوبات التي يواجهها الفرد، يستطيع من خلاله الشعور بالرضا والاكتفاء، ويرتكز على ما يسمّى بنموذج “الفجوات الثلاث”، إذ يعتبر أن ما من شيء أكثر افسادًا للسعادة الآنية أكثر من أن يقارن نفسه بغيره، أو بالشخص الذي يعتبره مثاليًا أو أنّ يقارن نفسه بما كان عليه سابقًا، خاصة وأنه، في كل من هذه المقارنات، يكون ضحيّة لتشوّهات خانته ذاكراته على توثيقها بشكل دقيق.

فالمرء بتكوينه، يميل إلى الاعتقاد بأنه أعلى بقليل من المتوسط وهو ما يعرف في علم النفس الاجتماعي بالتأثير “الأفضل من المتوسط”، فهو دائمًا أمهر السائقين أو أكثر الطلاب تفوّقًا أو أفضل العمال مهارة… إلا أنّ هذا التحيّز لا يمكن أن ينجح، إلا في حال تمّت المقارنة “عن بعد وبهدوء”!

دعم احترام الذات

أظهرت العديد من الدراسات التي أجريت على أشخاص أعربوا عن سعادتهم وقناعتهم بما هم عليه، أنهم يتحاشون المقارنة بالآخرين وإذا فعلوا ذلك، فإنهم يقارنون أنفسهم بأشخاص أقل حظًا منهم، تماشيًا مع المثل الذي يقول: “اللي بشوف مصيبة غيرو بتهون مصيبتو”، فتقدير الذات يعتبر مقياسًا اجتماعيًا يتيح للمرء معرفة قيمته الحقيقية ومدى تقدير الآخرين وتقبّلهم له وإعجابهم به بحيث يقوم على ضوئها بتحديث وتعديل صورته.!

christophe-andre-pendant-les-crises-on-n-ecoute-plus-les-gens-qui-ne-pensent-pas-comme-nous

                       كريستوف أندريه 

وفي دراسة أجراها الاختصاصي في علم النفس والطبيب المعالج في مستشفى “سانت آن” الباريسي كريستوف أندريه مع طلابه ونشرها في العام ٢٠٢٣، تبيّن من خلالها أنّ المقارنة التصاعدية تساهم في تنمية الشخصية وتمنح الشخص فرصة أكبر للتطوّر في حين أن التنازلية تساعده على تقدير ذاته واحترامها واستقرارها وبالتالي الامتنان لما هو عليه.

ولكن لماذا تتسبب المقارنات بالكثير من المتاعب والإحباط؟ يجيب أندريه: “ببساطة، لأننا حيوانات اجتماعية مضطربة”. ويضيف شارحًا: ” إنّ المقارنة آلية منتشرة في عالم الحيوان، سواء كانت لتعلّم المهارات من المخلوقات الأخرى، أو للحكم على ما إذا كان وضعها الاجتماعي مقبولًا أم لا”، مثلًا عندما قام باحثون بتكليف اثنين من القردة الصغيرة بمهمة بسيطة، كانت تتمّ مكافآتهما بإعطاء كل واحد منهما خيارة، ولأن الأقفاص كانت جنبًا إلى جنب، فمن البديهي أن يرى كل قرد ما يحصل مع جاره، إلا أنّه، في أحد الأيام، كوفِئ أحد القردة بموزتين في حين بقيت مكافأة الآخر خيارة، مما دفع هذا الأخير إلى فقدان أعصابه ورميها بوجه الباحث للإعراب عن رفضه لها”.

ويعتقد كريستوف “انّ الجنس البشري تحوّل إلى “حيوانات اجتماعية مضطربة” من خلال المجتمع الذي أنشأه بنفسه، والذي يفتقر إلى التكافؤ، بسبب المقارنات التصاعدية المؤلمة الذي يقوم بها، والشعور الدائم بالمنافسة “.

2000004303676

مقارنات سيئة وأخرى جيّدة

وكما يوجد مقارنات سيئة، فهناك الجيّد منها أيضًا، ومعرفة المرء التمييز بينها أمر ضروري للتعايش مع الآخرين من دون أن يتحوّل إلى عبد للمرآة أو للأنماط الجاهزة التي تدخل حياته من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والسينما والتلفزيون والمجلات… ومن دون وقوعه ضحيّة مقارنات مع أشخاص لا يمتّون إلى مجتمعه بصلة، ففي حين كان أسلافنا يُقارَنون، بأهلهم وإخوتهم وجيرانهم ومعارفهم، باتت المقارنات تجري اليوم مع صور لأجساد ووجوه خاضعة لمبضع الجرّاح والتكنولوجيا، فإذ بها تتحوّل من بنّاءة إلى مرهقة، محرّضة ومضلّلة.

المقارنة والحسد

كذلك، ثمة خيط رفيع بين المقارنة والحسد، بحيث أنّ الثاني هو شعور متكرّر، غالبًا ما يؤدي إلى الإحساس بالذنب والإرهاق والقلق والاكتئاب وعدم الرضا والعدائية… فكم من مرّة سمعنا أحدهم يقول: أنا أيضًا أريد أن أنجح بهذه الطريقة لكنني لست قادرًا على ذلك، أو لماذا هؤلاء الحمقى أكثر سعادة واحترامًا مني؟…

إذن، ما السبيل للتعايش بشكل أفضل مع المقارنات؟

يقول الفيلسوف أندريه كونت-سبونفيل André Compte-Sponville “إن العيش بسلام يتطلّب التخلَّي عن المسابقات غير الضرورية”، ويعتبر أنّ “الرجل المتواضع لا يؤمن أو يرضى بأنّ يكون أقلّ مرتبة من الآخرين، كما أنه يرفض أن يعتقد أنه متفوّق، فالتواضع يكمن في تجنّب المنافسة غير المجدية”.

واعتبر “انّ مقارنة النفس بالنفس هي أفضل من المقارنة بالآخرين، ففي حين أنّ المقارنة بالآخرين مفيدة لاستلهام أفكارهم والاستفادة من تجاربهم، فإنّ المقارنة بالذات تكون بتقييمها وإعادة النظر بالأخطاء التي اقُترِفت”.

طبعًا، قد لا تخلو الحياة من بعض المواقف التنافسية كالألعاب الرياضية أو الدراسة أو الوظائف، أما بالنسبة للباقي فإن الرغبة بالتفوّق بكل شيء، سيجلب الضغوط أكثر من السعادة، هذا عدا أنها قد تؤثر على الثقة بالذات والشعور بالأمان، ولأن الإنسان بطبيعته قد لا يتمكّن من العيش من دون مقارنات، فمن المستحسن أن يتستخدمها كأداة لإنارة أفكاره ولمواكبة العصر وليس للوصول إلى ما وصل إليه الغير، أي بمعنى آخر قارن لتتكيّف، لأنّ “فنّ المقارنة” ليس بجديد أبدًا.

المقال السابق
الأسد من قمة جدة: الأهم هو ترك القضايا الداخلية لشعوبها لإدارة شؤونها
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"مفترس في هارودز" وثائقي يتهم محمد الفايد باغتصاب موظفات وابتزازهن

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية