إنقسمت الولايات المتحدة الأميركية في تقييم محاولة اغتيال دونالد ترامب بين معسكرين: كارهو المرشح الجمهوري نسبوا إليه تدبير محاولة اغتياله، زاعمين أنّه أشرف على عرض مسرحي قام بلعب دور البطولة فيه. كارهو الرئيس الأميركي جو بايدن اتهموه بالضلوع بهذه الجريمة للتخلص من منافس شرس سوف يطيح به.
ومن الآن، حتى قيام الساعة، ومهما انتهت اليه نتائج التحقيقات الرسمية سوف يبقى هذا الانقسام الأميركي في التعاطي مع هذا الحدث الذي سرعان ما ستتم ترجمته في روايات وأفلام ومسلسلات، إذ إنّ الولايات المتحدة الأميركية هي “ام الخيال” العالمي.
ولكن، دعونا نجول قليلًا على ما حصل، في محاولة لتقريب ما يقال من الواقع.
بالنسبة للزعم بأنّ دونالد ترامب دبّر الجريمة بنفسه ضد نفسه، فيه الكثير، في ضوء نتائج ما حصل، من الخيال المؤامراتي. يكفي أن نعرف أنّ الدم الذي سال على وجه ترامب هو دمه، وليس “دمًا سينمائيًّا” لندرك أنه فعلًا كان في خطر. لو أخطأ القاتل مليمترات قليلة لكانت الرصاصة قد فجرت رأس ترامب. وهذا احتمال كان واردًا بقوة، إذ إنّ المسافة التي أطلق منها النار كانت على بعد يتراوح بين 150 و200 مترًا.
ونسبة الخطر العالية جدًا على حياة ترامب، تجعل تصديق فرضية تدبير محاولة اغتيال نفسه، غير قابلة للتصديق، إلّا إذا افترضنا أنّ ترامب مجنون ومحاط بمساعدين مجانين مثله.
وبمطلق الأحوال، لم يكن ترامب بحاجة، في هذه المرحلة، إلى مسرحية من شأنها تعزيز حظوظه، إذ إنّه في وضعيّة مريحة جدًا، خصوصًا بعد انتصاره الساحق في مناظرته التلفزيونية الأخيرة على خصمه جو بايدن.
في المقابل، إنّ فرضية أن يكون جو بايدن هو الذي يقف وراء تدبير محاولة اغتيال ترامب، بسبب وضعيته الانتخابية الضعيفة، إحتمال “معقول”، على اعتبار أنّ “اليائس” يمكنه أن يقدم على أعمال متطرفة، كالقتل مثلًا، لكن دون هذه الفرضية الكثير من الموانع العملية والمنطقية، إذ إنّ بايدن لو وجد فعلًا من يمكن أن يحذف ترامب من دربه، لما كان قد فشل، لأنّه، في هذه الحالة، يكون على رأس مؤامرة تنفذها الإدارة الأميركية والأجهزة المرتبطة بها. وهذا السيناريو غير محتمل، لأنّ هذا ليس من الأسرار التي يمكن الإحتفاظ بها على الإطلاق، بفعل طبيعة التركيبة الأميركية التي لا مكان فيها لصمت عميم على جرائم كبيرة.
قد يكون للطرفين المعنيّين بالانتخابات الأميركية مصلحة حقيقية في تقاذف المسؤوليات، ولكن هذا لا يمكنه تفسير ما حصل.
في هذا الوقت، يستطيع كل فريق أن ينسب التحريض على العنف والكراهية الى الطرف الآخر، لكن هذا أيضًا لا يمكنه تفسير محاولة الإغتيال، فترامب وفريقه أكثر عنفًا على بايدن وفريقه، فالطرفان يبثان الكراهية التي لا بد منها كمحرك لفئات من المقترعين على انتخاب هذا أو ذاك!
في الواقع، إنّ الولايات المتحدة الأميركية التي فيها الكثير من المزايا، فيها الكثير من السلبيات أيضًا: العنف الذي ترتكبه “ذئاب منفردة” قادرة بسهولة الى الوصول الى ما تحتاجه من أسلحة، كثير ويترجم نفسه في جرائم خطرة. كل “ذئب منفرد” يكتب قصته كما يشتهي. هذا يقتل أطفالًا، وذاك طلابًا وذياك زملاء والحبل على الجرار!
لم تستطع الولايات المتحدة إيجاد حل لمشكلة خروج “وحوش” من صفوف شعبها ، في ظل حرية التسلح، وكثرة الإنحرافات الناجمة عن التهام آلي لكل ما تبثه ليس و سائل الإعلام فحسب بل ما تحفل به وسائل التواصل الإجتناعي، أيضًا!
قد يكون الشاب الذي حاول اغتيال ترامب من هذه “الذئاب المنفردة” الذي أراد أن يكتب قصة جديدة ووجد في “صلف” ترامب و”نجوميّته” ضالته، وقد يكون أكثر من ذلك، ولكنه من دون شك سوف ينضم الى قائمة طويلة بدأت ضد ابراهام لينكولن وظن كثيرون أنها انتهت مع نجاة رونالد ريغان.
على أي حال، ومهما كانت آراؤنا بالنتائج التي تخرج، تباعًا، من مكتب التحقيقات الفدرالية، فهي تبقى حقائق مستندة الى وقائع مؤكدة خاضعة لتمحيص الأطراف المعنية بها، وعلينا، في التعاطي معها، ألّا ننسى أبدًا أننا ننتمي، كلبنانيين، إلى منظومة دول احترفت وضع ملفات الجرائم في عهدة ذاك المسمّى “المجهول”!