مكرم رباح
مغامرة الحرية والديموقراطية دائمًا تستحق العناء. هذه الكلمات خطّها المعلّم الشهيد كمال جنبلاط في معركته المستمرّة لمنع تحويل لبنان إلى ما وصفه في كتاباته بـ”السجن الكبير”.
سجن حاول النظام القاتل حافظ الأسد وفلول الناصرية فرضه على لبنان من خلال “صفقة شيطانية” لتطويق الثورة الفلسطينية مقابل السيطرة الكاملة على لبنان. اغتيال كمال جنبلاط والأحداث التي تلت ذلك، استطاعت تحويل لبنان من واحة للحريات إلى بلد يقاتل للدفاع عمّا تبقّى من نظامه الليبرالي والديموقراطي، حيث بقيت الدولة اللبنانية الضعيفة صامدة في جسمها القضائي والأمني حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية وسيطرة الميليشيات. بعد انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990، وقعت الدولة تحت قبضة نظام الوصاية والاحتلال السوري، لكنّ الاحتلال استمرّ يراعي شكليًا الدولة للسيطرة على لبنان. على الرغم من ذلك، لم يصل الانحطاط الأخلاقي إلى المستوى الذي يعيش فيه الشعب اللبناني حاليًا.
هذه الأفكار مرّت بخاطري يوم الاثنين الماضي أثناء مثولي أمام جهاز الأمن العام اللبناني، في استنابة قضائية صادرة عن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، في سياق الردّ على تصريحاتي الانتقادية لميليشيات موالية لإيران وتوريطها للبنان ومصلحته الوطنية في حرب مشاغلة تدّعي نصرة الشعب الفلسطيني، ولكنّها كما ظهر وأكّد مسـؤولوها أنّها تخدم المشروع التوسّعي للحرس الثوري الإيراني.
قام جهاز الأمن العام، باحترافية والتزام بالقانون، بتوجيه أسئلة مرتكزة على استنابة من مفوض الحكومة حول إطلالة إعلامية تحدثت فيها عن منطقة القلمون السورية التي حولها “حزب الله” وميليشيات إيرانية إلى موقع لتخزين السلاح وتصنيع وتوضيب مخدّر الكبتاغون، وكذلك حديثي عن قيام “حزب الله” بشراء الإلكترونيات من السوق اللبناني لاستخدامها في مسيّراته، والتي أشّرت بسخرية إلى أنّها تصلح فقط لتصوير حفلات الأعراس.
وفقًا للاستنابة، وعلى زعم “مفوض الحكومة” الذي اطلع على المقابلة بكاملها من دون إيعاز من أحد، اعتبر أنني أعطيت إحداثيات عسكرية قد تمكّن إسرائيل من ضرب تلك المواقع. سألني عن مصدر معلوماتي “الأمنية”، وهو أمر وجدته ساذجًا، خاصة أنّ كلّ المعلومات التي أقدمها مستقاة من مصادر مفتوحة (Opensource) وموجودة عبر تقارير صحافية وإخبارية متعددة على الإنترنت. أمّا بخصوص قطع المسيرات، فقد أشرت إلى أنّه من المفيد الاطلاع على لائحة العقوبات الصادرة عن “الخزانة الأميركية”، التي تضمّ أسماء موردين موضوعين تحت العقوبات لشرائهم القطع للمسيرات لصالح الجهة المذكورة. انتقل مفوض الحكومة إلى اعتبار تصريحي عن نهر الليطاني، الذي تحوّل إلى مجرور بسبب فساد الطبقة السياسية المحمية بسلاح “حزب الله”، كدعوة لإسرائيل للقيام بغزو لبنان، معتمداً على كلام مجتزأ لي بحسب الورقة التي أرسلها، والتي للمفارقة تتطابق مع حملة “حزب الله” التضليلية ضدّي خلال الأسبوع المنصرم، وكما يبدو فهو لم يستوعب بأنّ كلامي كان بمعرض تهكّمي على جدية “حزب الله” في أعماله العسكرية أو ما توصف بـ”مسرحيات جهادية”.
بطبيعة الحال، لم تثر الأسئلة “الساذجة” التي وجهت لي قدر ما أثاره سؤال استطرادي من “مفوض الحكومة” بعد مخابرة من قبل رتيب التحقيق، والذي تضمن “ألّا يعرف مكرم بأنّ “حزب الله” مقاومة لبنانية بحسب ما ورد في البيان الحكومي لإحدى الحكومات السابقة ومن هنا الإجماع حولها”، مضيفاً “إن انتقاد “حزب الله” في هذه المرحلة من شأنه إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وخدمة العدو الإسرائيلي، وأنّ إعطاء إحداثيات عسكرية عن مواقع “حزب الله” في سوريا يعدّ جريمة”.
بطبيعة الحال، كان ردي على هذه القراءة القانونية الضحلة والخاطئة بأنّ البيانات الوزارية هي ورقة سياسية لا قيمة لها قانونًا، وأن الدستور اللبناني ينص – وهنا المبدأ القانوني بألّا اجتهاد في معرض النص – على أن احتكار السلاح هو للدولة اللبنانية وأن قرار السلم والحرب يعود بشكل حصري إلى المجلس النيابي اللبناني وليس إلى الحرس الثوري الإيراني المتمثل بـ”حزب الله”. وأشرت إلى أن “حزب الله” لا يملك رخصة حزب لبناني كون عقيدته السياسية لا تعترف بالكيان اللبناني، وذلك بحسب وثيقته التأسيسية سنة 1985.
ولعل الأهم، ما ذكرته لـ”مفوض الحكومة” بأن مقدمة الدستور تعطيني وتعطي كل لبناني الحق المطلق بحرية التعبير، وأن اتهاماته السياسية لي لا أث ر لها قانونيًا ولا أخلاقيًا، وأن الدستور اللبناني بالنسبة إلى طالب السنة الأولى في كلية الحقوق – حيث نلت إحدى شهاداتي وحيث والدي القاضي والمرجع القانوني درس وعلم أجيالاً من الحقوقيين – هو المرجع الأسمى للتشريع والقانون.
فور الانتهاء من التحقيق أو “المواجهة السياسية”، أعطى “مفوض الحكومة” إشارة بإطلاق سراحي شرط أن أسلم هاتفي الشخصي، كونه وفق رأيه غير المستند إلى أيّ برهان أو بحث جنائي، يوجد شبهة بتخابري مع إسرائيل ومن ثم وجوب تفريغ محتوى هاتفي وأن يقوم بالاطلاع عليه شخصيًا، وهو أمر رفضته بشكل مطلق كونه يتعارض مع حقي الدستوري ومع قانون التنصّت الصادر عن البرلمان اللبناني.
“مفوض الحكومة” وصمني بـ”العمالة والصهيونية” من دون أي دليل وبدون أيّ حقّ، في حين أنّ العميل بحسب التعريف القانوني هو من يخدم أجندة خارجية، ومن ينتهك السيادة اللبنانية ومن يهرب المخدرات والسلاح والبضائع ومن يستلم راتبه من جهة أجنبية في خدمة مشروع مذهبي تدميري عزل لبنان عن بيئته العربية وقام باغتيال رئيس حكومة لبنان الرئيس الشهيد رفيق الحريري (بحسب المحكمة الدولية طبعًا)، وقام مسؤول أمنه بالدخول إلى قصر العدل ليهدّد القاضي طارق بيطار المحقّق العدلي في تفجير مرفأ بيروت. العميل هو من يقتل لقمان سليم في الجنوب اللبناني، ومن يغتال سمير قصير ومؤسس “جبهة المقاومة الوطنية” جورج حاوي، ومن يقوم بإعطاء مئات الأميال من بحرنا ومواردنا الطبيعية إلى إسرائيل. هو من يستحقّ اتهامه بالعمالة، وليس شخصًا ينتمي إلى طائفة من المنادين بدولة القانون والمؤسسات، ذنبه الوحيد هو رفضه الانصياع إلى “سيد ظالم”.
الحسرة الوحيدة في قلبي من المواجهة مع “الأخ الأكبر” في روايتنا “الأورويلية” المستمرّة، هي أنّ صديقي الشجاع لقمان سليم غير موجود حتى نشرب نخب انتصار في معركتنا المشتركة ضدّ “الفاشية”. وكذلك محاولة تغييب هيكل العدالة والقانون الذي أرساه والدي القاضي وأمثاله مثل القاضي يوسف جبران وأسعد جرمانوس وفيليب خيرالله. هيكل وضيع أصبح الآن يُحكم من أشخاص يرون بأنّ الدستور و كرامة الانسان وجهة نظر.
النهار