يمكن تحليل الكثير من المعطيات التي حفلت بها “زيارة الأسبوع” التي يقوم بها رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري لوطنه بمناسبة حلول الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد والده الرئيس رفيق الحريري، لكنّ “اللازمة” التي لم تغب عن المواقف التي أطلقها في أكثر من مناسبة، بعد صمت مطبق إستمر منذ أعلن تعليق عمله السياسي في الرابع والعشرين من كانون الثاني 2022، خصصها لموضوع “الإعتدال”.
وأصاب الحريري في هذا التهديف، فهو “بيت القصيد” ليس في العالم والشرق الأوسط فحسب بل في لبنان أيضًا، إذ إنّ للإعتدال “جنرالات” كثرًا على امتداد الكرة الأرضيّة، لكنّه في لبنان بدأ يفقد حتى “جنوده”، في ظل الإشتباك السياسي الكبير، من جهة أولى والإختلاف عل ى طريقة التعاطي مع الجبهة اللبنانية- الإسرائيلية، من جهة ثانية واندماج “حزب الله” في تقديم المواجهة مع إسرائيل على أساس انتمائها الى نهج إسلامي سبق أن أرساه مؤسسو “الجمهورية الإسلامية في إيران”، من جهة ثالثة.
وقبل مجيء الرئيس سعد الحريري الى بيروت، بعد انقطاع إستمرّ سنة كاملة، كان واضحًا أنّ “حزب الله” عمل على تجهيز أرضية في القواعد السنيّة في لبنان، من أجل نقل “الحريريّة السياسيّة” الى “الجماعة الإسلامية”.
تبيّن ذلك من خلال محاولة “حزب الله” العزف على وتر التعاطف الكبير في هذه البيئة السنيّة مع الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، فلم يكتفِ بإتاحة المجال ل”حركة حماس- لبنان” باستعمال الأراضي اللبنانية لاستهداف شمال إسرائيل فحسب، بل ذهب الى أبعد من ذلك إذ ضمّ ما يسمّى ب”قوات الفجر” التي جرى تقديمها على أساس أنّها الجناح العسكري للجماعة الإسلامية في لبنان، إلى غرفة عمليات وزوّدها بما تحتاج إليه عملياتها “المنتقاة” من أسلحة، أيضًا.
وبيّنت تقارير عدة أنّ “حزب الله” يتطلّع الى استثمار هذا “الإندماج العسكري” بتحالف سياسي في وقت لاحق، بحيث يساعد من خلال “حماس- لبنان” هذا التيّار في الجماعة الإسلامية من أجل كسب نفوذ كبير في البيئة السنيّة، ممّا يمكّنه في الإنتخابات البلدية من أن يختبر نقاط قوته وضعفه في تهيئة نفسه للإنتخابات النيابية المقبلة.
وقد أثار هذا التوجه الذي تعتبره الدوائر الإقليمية والدولية بأّنه “تعاضد المتطرفين” في إشارة الى “حزب الله” و”الجماعة الإسلامية”، تحفظات كثيرة في لبنان، لأنّه بنزع الإعتدال من البيئة السنيّة، سوف تتعزز توجهات إنفصاليّة بدأت تشهد نموًا كبيرًا في البيئات المسيحيّة.
وعمل الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 1996 على تكوين تحالف إنتخابي عريض في البلاد تحت عنوان ” نصرة الإعتدال على التطرف”، الأمر الذي أدى الى خروج الجماعة الإسلامية من مجلس النواب اللبناني في حين خسر “حزب الله” مقاعده في بيروت وجبل لبنان.
ومنذ بدأ الرئيس سعد الحريري مشواره في السياسة اللبنانية حرص على تقديم نفسه كزعيم لبناني معتدل، يقدّم مصلحة “لبنان” على ما عداها من مصالح دينية وفئوية وإقليمية.
ولكن مع اندلاع الحرب الإسرائيليّة ضد غزة، تعرّض هذا الإعتدال في البيئة السنيّة لخطر حقيقي، بحيث افتقدت هذه البيئة الى من لديه القدرة على أن يسوّق لوجوب التمييز بين التعاطف مع فلسطين، من جهة وبين استغلال ذلك في تقوية مشاريع غير وطنية، من جهة أخرى.
وعلى هذا الأساس، أدرج الحريري زيارته التي على الرغم من إنّها لم تُعِده الى يوميّات السياسة اللبنانيّة إلّا أنّها كرّست عودته الكاملة الى اليوميّات الوطنية، تحت عنوان الإعتدال.
وإعادة الإعتبار الى الإعتدال لا تحتاج فقط الى جهد كبير بل الى إمكانات كبيرة.
ولا يملك الحريري، في الظروف الراهنة، هذه الإمكانات، فهو بحاجة الى دعم كامل من “محور الإعتدال”، على اعتبار أنّ التطرّف ليس يتيمًا بل يرعاه محور لديه إمكانيات ضخمة.
وقد بدا واضحًا أنّ تحديات إعادة الإعتبار الى الإعتدال في لبنان كبيرة للغاية، فهي تبدأ بمواجهة- ولو من موقع ربط النزاع- مع “حزب الله”، وقد تجلّى ذلك في إبداء الضعف أمام عنوانين “عاديّين” واجههما الرئيس الحريري في زيارته للبنان: قتلة والده وسائر شخصيات 14 آذار، والحرب المحتملة ضد لبنان إنطلاقًا من التوتير المتصاعد على الجبهة اللبنانية.
وقد بدا الحريري الذي يظهر وكأنّه يتولّى مهمة إعادة الإعتبار الى الإعتدال في لبنان وحيدًا، بحيث ترك أمر تنفيذ العدالة الأرضية الى العدالة السماوية، بإشارته الى أنّ مبدأ “بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين” يأخذ مفاعليه، إذ إنّ قتلة والده يُقتلون سواء في سوريا أو في غيرها، ولن توفّر العدالة السماويّة أيًّا من هؤلاء.
وهذا التسليم، وإن كان محمودًا دينيًّا ومعتمدًا من المؤمنين، إلّا أنّه يبيّن الضعف السياسي والخلل في ميزان القوى.
وقد تجلّى هذا الضعف أيضًا في موقف الحريري من موضوع التوتر الحربي على الجبهة اللبنانية- الإسرائيليّة، إذ إنّه تحدث من موقع المراقب وليس من موقع الزعيم السياسي، فهو واضح في أنّه يرفض ما يحصل هناك، ويعتبر أنّه سيؤدي الى حرب يريدها رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو، ويعرب عن اعتقاده بأنّ هكذا حربًا ستضر بغزة إذ المطلوب تركيز الإهتمام على ما يعاني منه هذا القطاع وشعبه، في حين أنّ أي حرب على لبنان سوف تفقدهما هذا الإهتمام.
وعليه، فإنّ مهمة إعادة الإعتبار الى الإعتدال في لبنان، على الرغم من أهميّتها، إلّا أنّ القيام بها يحتاج الى توافق محور الإعتدال على أنّ سعد الحريري هو “رجلها”، وفي حال حصل ذلك لا بدّ من الإفصاح عنه، بطريقة لا تقبل أيّ نوع من الإلتباس، على أن يلي هذا التبنّي والجهر به توفير ما يلزم من حضانة إقليميّة ومن استنفار سياسي داعم يواكب استنفارًا شعبيًّا أظهر التجمع حول ضريح الرئيس الشهيد في 14 شباط أنّ “خميرته” متوافرة!